الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عليّ بنُ أبي طالب (عليه السلام):
بعد الفراغ من شرائط الإمامة من العصمة ، والأفضليّة ، نشرع في تعيين الإمام . إختلف النّاس في تعيين الإمام ، فقال جمهور المسلمين : هو أبو بكر " عتيق بن أبي قُحافة " لاختيار النّاس له . وقال قوم : هو " العبّاس بن عبد المطّلب " عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لوراثته . وقالت الإماميّة : هو " عليّ بن أبي طالب " عليه السلام لِلآتي : ← أوّلا : التواتر : ما نُقِل عن الفريقين مِمَّا أفاد العلمَ في حقِّه (عليه السلام) :
» " سَلِّموا عليه بِإمْرة المؤمنين " (1). » " أنت الخليفة من بعدي " . » " أنت وَلِيُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة " . » " من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ". » " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي " .
← ثانيا : حديث الدّار : وهو أوّل نصّ على إمامته (عليه السلام) ، حينما بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وراء أقربائه وعشيرته ليدعوَهم إلى الإسلام ، فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عزّوجل أن أدعوَكم إليه ، فأيّكم يؤمِن بي ، ويؤازِرُني على أمري ، فيكون أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي ؟ فأمسك القوم ، وأحجموا عنها جميعا ، فقام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وقـال : " أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك على ما بعثك الله به ، فأخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده ، ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعـوا . فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع" (2).
← ثالثا : آية الولاية : قال تعالى : ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله ُ وَرَسُولُهُ والذينَ آمَنُوا الذينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (3). نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عندما تصدّق بخاتمه ، وهو راكع ؛ والوليّ هنا بمعنى الأولى بالتّصرّف ، فيكون أولى بأمورالنّاس من أنفسهم ، وهو الله ، ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليّ (عليه السلام) لاجتماع صفات الإيمان فيه ، وإقامته للصّلاة ، وإيتائه الزّكاة وهو راكع ، فكما أثبت الله تعالى الولاية لنفسه ، أثبتها لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام عليّ (عليه السلام) .
← رابعا : أنّه أفضل النّاس بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل ، والدّليل على ذلك من وجهين : 1- قوله تعالى في آية المُبَاهَلَة (4): ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ﴾ (5)؛ والمراد بـ" أنفسَنا " عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السلام) ؛ فإذا كان نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمن خيرٌ منه؟ 2- إنّ النبيّ احتاجه في المباهلة دون غيره من أصحابه وأنسابه ، والمحتاج إليه في هكذا حادثة عظيمة أفضل مِمَّن لم يُحْتَجْ إليه .
وقد صَّرح أبو بكر بعدم أفضليّته عندما قال في خطبته : " ... لست بخيركم فبايِعوا خيرَكم ..." (5)؛ ولا يقصد بذلك النسب ، لأنَّ نسبه كان معلوما للجميع ، وإنّما يقصد أنّه ليس الأفضل في أمور الرياسة وضبط البلاد ، وإقامة العدل ، وقد أبدى ذلك بقوله : " إنّ لي شيطانا يحضرني ، فإذا رأيتموني قد غضبت فاجتنبوني ... يا أيّها النّاس تفقّدوا ضرائب غلمانكم ، إنّه لا ينبغي لِلَحْم ٍنَبَتَ من سُحْتٍ أن يدخل الجنّة ، ألا وراعوني بأبصاركم ، فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوِّموني ، وإن أطعتُ الله فأطيعوني ، وإن عصيتُ الله فاعصوني " (6).
ولا يُقال أنّ في الكلام تواضعا ؛ لأنّ المقام لا يتحمّل المماطلة والفتنةُ على الأبواب ، كما يلزم منه الهروب من مسؤوليّته تجاه الله تعالى والأمّة إن ادُّعي حُسن اختياره ، وهذه المماطلة والهروب لا يليقان بهكذا منصب يُنْتَظَرُ منه تقويم الاعوجاج ، كما كيف يوثق به في دفع الظلم وردّ المظالم وهو يُشَكِّكُهم بنفسه قائلا : " ... إن لي شيطانا يحضرني " ، فتأمّل بقلبك إذ الحقّ أجلى من شعاع الشمس ، وعليٌّ أجلى من الحقِّ نفسِه .
← خامسا : عليّ ادّعى العصمة فهو الإمام : - الإمام يجب أن يكون معصوما (صغرى) . - ولا أحد غير عليّ (ع) ادَّعى العِصمة (كبرى ) . » إذن عليّ (عليه السلام) إمام (النتيجة) .
أمّا الصغرى فقد مرّ بيانها ، وأمّا الكبرى فللإجماع على عدم عصمة العبّاس ، وأبي بكر .
وبعد بيان المقدّمتين ثبتت إمامته (عليه السلام) ، وإلا لزم خرْق الإجماع ، أو خلوّ الزمان من المعصوم ، وكلاهما باطلان .
← سادسا : أنّه أعلم النّاس : وهذا مِمَّا لا ريْب فيه ، حتى إنّ الخلفاء يرجعون إليه في حكم البلاد ، فمِمَّا قاله ابنُ الخطّاب : " لولا عليّ لهلك عُمَر " ، وقال : " بئسَ مُقامٌ ليس فيه أبو الحسن " .
وحسبُك أنّه تلميذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة الذي قال فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) : " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " ،ومَن أراد المدينة فليأتها من بابها (7)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : " أقضاكم عليّ " ... وإذا كان أعلم النّاس تعيّن للإمامة .
← سادسا : ظهور المعجزة على يده : كما في حادثة قلع باب "خيبر" ، ورفع الصخرة العظيمة عن فم القليب (8)، وردّ الشمس حتى عادت إلى موضعها (9)، وكلام الثّعبان له (10)، وغيرها مِمَّا لا يحصى .
ومن ادَّعى الإمامة ، وظهرت المعجزة على يده ، لا بدّ أن يكون صادقا ، وإلا لزم الإغراء بالقبيح ، وهو محـال (11).
← سابعا : غير عليّ ممَّن ادُّعيت لهم الإمامة ظَلَمة : لا أحد مِمَّن ادُّعِيَت لهم الإمامة من غير عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يصلح لها ؛ لأنّهم ظلمة بِتّقَدُّم كفرهم ، فلا تنالهم الإمامة لقوله تعالى لنبيّه إبراهيم (عليه السلام) حينما سأله عن المُسْتَحِقّين للإمامة من وِلدِه : ﴿وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنُّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (12).
____________________
(1) أي نادوه : يا أمير المؤمنين . (2) بحار الأنوار ج 18 : 192 / ط . مؤسّسة الوفاء . أسد الغابة "لابن الأثير " ج 4 : 28 / ط . انتشارات اسماعليان . (3) سورة المائدة الآية : 55 .
(4) المباهلة : " هي الملاعنة ؛ بأن يسأل المتخاصمان الله َ تعالى أن يُهْلِكَ من هو على الباطل ليتّضح الحق " . تواترت الرّوايات في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج لمباهلة نصارى نجران محتضنا الحسين (عليه السلام) ، وأخذ بيد الحسن (عليه السلام) ، وفاطمة وعليّ يمشيان خلفه ، وهو يقول : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال الرئيس الدينيّ للوفد : يا معشر النصارى ، إنّي لأرى وجوها لو دعت الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ثمّ قال : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك ، فقال لهم : أسلموا ، فأبَوا ، ثمّ صالحهم على أن يؤدُّوا الجزية" . (5) كنـز العمّال المتّقي الهندي ج 5 : 631 / ط . مؤسّسة الرسالة . (6) المصدر السّابق .
(7) ﴿...واتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا...﴾ سورة البقرة الآية : 189 . (8) أي البئر . (9) ردّت الشمس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مرّتين ، مرّة في أيام رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ومرّة بعد وفاته صلّى الله عليه وآله : - أمّا في أيامه صلّى الله عليه وآله : رُوِيَ عن أسماء بنت عُمَيْس أنّها قالت : " بينما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نائم ذات يوم ورأسه في حِجْرِ عليّ عليه السلام ففاتَتْه العصر حتى غابت الشمس ، فقال : " الّلهم إنّ عليّا كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردُدْ عليه الشمس ، " قالت أسماء : فرأيتها والله غربت ثم طلعت بعدما غربت ، ولم يبقَ جبل ولا أرض إلا طلعت عليه حتى قام عليّ عليه السّلام فتوضّأ وصلّى ثم غربت " . - وأمّا بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّه : رُوِيَ عن جويرية بن مسهّر أنّه قال : " أقبلنا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من قتْل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل- مازال اسم الموضع مسجد الشّمس- حضرت صلاة العصر فنـزل أمير المؤمنين عليه السلام ونزل الناس ، فقال عليّ (عليه السلام) : أيّها الناس إنّ هذه أرض ملعونة قد عُذِّبَت في الدّهر مرّتين وهي تتوقّع الثالثة وهي إحدى المؤتفكات- مدائن قوم لوط أهلكها الله بالخسف - ، وهي أوّل أرض عُبِدَ فيها وثن ، وإنّه لا يحِلّ لنبيّ ولا لوصيّ نبيّ أن يصليَ فيها ، فمن أراد منكم أن يصليَ فليصلِّ ، فمالَ الناس عن جنبي الطريق يصلّون ، وركب هو عليه السلام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله ومضى ، قال جويرية : فقلت : والله لاتبعنّ أمير المؤمنين عليه السلام ، ولأقلدنّه صلاتي اليوم ، فمضيت خلفه فوالله ما جزنا جسر سوراء – بلدة ببابل وبها نهر اسمه نهر سوراء - حتى غابت الشمس فشككت ، فالتفت إلي (عليه السلام) وقال : يا جويرية أشككت ؟ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين ، فنـزل عليه السلام عن ناحية فتوضأ ، ثم قام فنطق بكلام لا أحسنه إلا كأنّه بالعبراني ، ثم نادى الصّلاة ، فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير – صوت شديد - فصلّى العصر وصلّيت معه ، فلما فرغنا من صلاتنا ، عاد الليل كما كان ، فالتفت إليّ وقال : يا جويرية بن مسهّر ، الله عزوجل يقول : ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيم ِ﴾ ، وإنّي سألت الله عزوجل باسمه العظيم ، فردّ عَلَيّ الشمس . وروي أن جويرية لما رأى ذلك قال : أنت وصيّ نبيٍّ وربِّ الكعبة " . " من لايحضره الفقيه " الشيخ الصدوق ج 1 : 200-201 / ط . دار التعارف . (10) ( كلام الثعبان ) : وهو خبر مشهور بالإسناد يرفع إلى الصّادق ( عليه السلام ) عن أبيه عن أبائه ( عليهم السلام ) قـال : كان أميـر المؤمنين ( عليه السلام ) يخطب في يوم الجمعة على مِنبر الكوفة إذ سمع وَجْيَة عَدْوِ الرّجال يتواقعون بعضهم على بعض ، قال لهم : مالكم ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ثعبان عظيم قد دخل ، ونفزع منه ، ونريد أن نقتله ، فقال ( عليه السلام ) : لا يقربنّه أحدٌ منكم ، فطرِّقوا له فإنّه رسولٌ جاء في حاجة . فطرَّقوا له ، فما زال يتخلّل الصفوفَ حتى صعد المنبر ، فوضع فمه في أذن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فنقَّ في أذنيه نقيقا ، وتطاول أمير المؤمنين (عليه السلام) يحرّك رأسه ، ثم نقّ أمير المؤمنين مثل نقيقه ،فنـزل عن المنبر ، فانساب بين الجماعة ، فالتفتوا فلم يرَوه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، وما هذا الثعبان ؟ فقال : هذا الذّرجان بن مالك خليفتي على الجنّ المسلمين ، وذلك أنّهم اختلفوا في أشياء وأنفَذُوه إليّ ، فجاء سألني عنها ، فأخبرته بجواب مَسَائِلِه ، فرجع ." عيون المعجزات " حسين بن عبد الوهاب صفحة 7 / ط . المطبعة الحيدريّة . (11) راجع بيان الكبرى من القسم السابق، مبحث إثبات نبوة النبي محمد عقلا ومعاجزه .
(12) سورة البقرة، الآية 124.
|