﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 شجرة_البؤس: (رؤية تحليليَّة) 

القسم : متفرقات ثقافية   ||   التاريخ : 2025 / 07 / 26   ||   القرّاء : 64

🏜️ شجرة البؤس: (رؤية تحليليَّة)

قالَ العارفون: "تَحْكُمُنَا الأَوْهَامُ". تختصرُ هذه المقولةُ العمقَ النفسيَّ والفلسفيَّ والاجتماعيَّ والدينيَّ الذي تنبضُ به روايةُ (شجرة البؤس) للأديبِ المصريِّ الدكتور (طه حسين)، عَنْ كيفيَّةِ صُنْعِ الإنسانِ مأساتَه بيدِيه، حين يقيسُ سعادتَه بمقاييسَ ظَنِّيَّةٍ، بانيًا قراراتِه على توقُّعاتٍ وهميَّةٍ، ومقارناتٍ قِشْرِيَّةٍ.

 

موجز من عقدة الرواية

يتزوَّجُ (خالد)، وهو فلَّاحٌ بسيطٌ، ابنةَ صديقِ والدِه (نفيسة)، ويعيشُ معها حياةً رَضِيَّةً هَنِيَّةً، غيرَ مُتَنَبِّهٍ لِدَمامَةِ ملامحِها، حتى يرزقَهما اللّٰهُ بابنتِهما (سميحة)، وكانت آيةً في الجمالِ، يتعرَّفُ مِنْ خلالِه على هذا المعنى، فيتفطَّنُ حينئذٍ لفقدانِ زوجتِه حُسْنَ الهيئةِ، فيقعُ في شِرْكِ المقارنةِ التي تشدُّه إلى قاعِ الأوهامِ، وتُلقي فيه بذرةَ شجرةِ بؤسٍ تُقَوِّضُ حياتَه العائليَّةَ. 

 

التحليل النفسيُّ: (وَهْمُ التوقُّع وفخُّ المقارنة)  

مِنَ المنظورِ النفسيِّ، تُظْهِرُ الروايةُ كيف كان الزوجُ قادرًا مَعَ فقرِه على عَيْشِ حياةٍ مستقرَّةٍ مَعَ زوجتِه، رَغْمَ دمامتِها، لولا تسلُّلُ وَهْمِ التوقُّعاتِ إليه عَقِبَ ولادةِ ابنتِه الجميلةِ، فَأَزْلَقَهُ مِنْ حالةِ (الرضا) التي كانت تُدِيرُها (الأنا) المُتَّزِنَةُ في مستوى وَعْيِهِ، إلى فخِّ المقارنةِ التي غذَّاها (الهو) الغريزيُّ؛ حيثُ بدأتْ نوازعُ (اللاوعي) تُعِيدُ تشكيلَ نظرتِه لزوجتِه، فَلَمْ يَعُدْ يرى فيها إلَّا القبحَ، رَغْمَ طِيبِ مَعْدِنِها وحُسْنِ مَعْشَرِها، لتنبتَ شجرةُ البؤسِ في رَوْعِه، وتمدَّ فروعَها إلى قلبِه.

وهَيْهُنَا إشارةٌ إلى مفهومِ (الإسقاط - Projection)، حينَ أبصرَ (خالد) دمامةَ زوجتِه، لا لأنَّه ازدادَ قبحُها، بَلْ لأنَّه (أسقط) على مظهرِها كلَّ خَيْبَاتِهِ الداخليَّةَ متعدِّدةِ المناشئِ؛ كضِيقِ معِيشَتِهِ. 

هذا الوَهْمُ هو ما يسمَّى في علمِ النفسِ بـ(الإدراكات المشوَّهة - Cognitive distortions)؛ كأنْ يتوهَّمُ الإنسانُ أنَّ الجمالَ الجسديَّ سيجلبُ له السعادةَ، أو أنَّ الغنى سيزيلُ عنه البؤسَ، متجاهلًا أو متغافلًا عَنْ أنَّ النفسَ هي المنبعُ الأوَّلُ للطُّمأنينةِ والشقاءِ. ومِنْ هُنَا كان جهادُ انحرافاتِها وأوهامِها جهادًا أكبرَ مِنْ جهادِ الحربِ؛ حيثُ تَزْدَلِفُ الأسِنَّةُ، وتقتربُ الأعِنَّةُ، وتُزْهَقُ النفوسُ. 

 

التحليل الاجتماعيُّ: (دور المجتمع في تضخيم الأوهام)  

مِنَ المنظورٍ الاجتماعيِّ، تُسَلِّطُ الروايةُ الضوءَ على البيئةِ الاجتماعيَّةِ قاصرةِ النظرِ، والتي تدفعُ الإنسانَ إلى تمجيدِ اللفظِ والظاهرِ وازدراءِ المعنى والباطنِ؛ فـ(خالد) الزوجُ أُخِذَ بالمظاهرِ الخَدَّاعَةِ، كما يطيرُ لُبُّ الناسِ بِصُوَرِ (الكمال) اللَّمَّاعَةِ، فيقيسون حياتَهم بما لا يمتُّ إلى الحقائقِ بصلةٍ. وهذا ما يُحْدِثُهُ ضغطُ المجتمعاتِ السطحيَّةِ في صناعةِ قوالبَ نمطيَّةٍ للجمالِ، تُحَلِّقُ فيها معاييرُه المفروضةُ، والتي لا تلبثُ أنْ تتبدَّلَ إلى معاييرَ جديدةٍ تتعذَّرُ مجاراتُها. 

وهُنَا نَتَحَسَّسُ السبيلَ إلى قولِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): "مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْتُ اللّٰهَ فِيهِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ".

وإلى هذا المعنى الجليلِ أشارَ (بولس) الرسولُ في رسالتِه في (أثينا): "(٢٧) لِكَيْ يَطْلُبُوا اللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. (٢٨) لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ..." [أعمال الرسل].

إذًا، العينُ التي تنغمسُ في المظاهرِ المادِّيَّةِ بِمَنْأَى عَنِ البصيرةِ الإلهيَّةِ، لا ترى إلَّا سَرَابًا سُرْعَانَ ما ينجلي عَنْ غُبَارِ الأوهامِ الإبليسيَّةِ.

 

التحليل الفلسفيُّ: (شقاء البحث عن الاكتمال)

مِنَ المنظورِ الفلسفيِّ، تُقَرِّرُ الروايةُ حقيقةً وجوديَّةً عميقةً، مفادُها: (لَا اكْتِمَالَ فِي دَارِ النَّقْصِ)، وبعبارةٍ أخرى تستأهلُ التدبُّرَ مَلِيًّا: (إِنَّ الإِنْسَانَ المَخْلُوقَ مِنْ جَوْهَرٍ لَا نِهَائِيٍّ، تَعْجَزُ الدُّنْيَا عَنْ مَنْحِهِ سَعَادَةً حَقِيقِيَّةً مُطْلَقَةً بِجَوْهَرِهَا النِّهَائِيِّ).

فإنَّ فكرةَ الحنينِ للتمامِ والاكتمالِ عندَ الإنسانِ مَعَ الإقرارِ بكونِه كائنًا ناقصًا، هو ما يُعَبِّرُ عنه الفلاسفةُ بـ(الأنطولوجيا الناقصة - Incomplete Ontology) للإنسانِ، والتي تشيرُ إلى تصوُّرٍ غيرِ مكتملٍ للوجودِ؛ أيْ رؤيةٍ جزئيَّةٍ عَنْ حقيقةِ الكَيْنُونَةِ، تختزلُ الإنسانَ في بُعْدِهِ البيولوجيِّ فقط، وتُغْفِلُ أبعادَه الروحيَّةَ أو الوجوديَّةَ. 

فإنَّ الزوجَ الذي كان شاكرًا بما لَدَيْهِ، راضيًا بما أُعْطِيهِ، أمسى جاحدًا متململًا بُعَيْدَ ظنِّه أنَّه كان لينالَ السعادةَ كلَّ السعادةِ لو حَظِيَ بالزوجةِ الفاتنةِ. وبهذا الوَهْمِ انقلبَ (خالد) بَائِسًا قَلِقًا مُبَعْثَرًا؛ لأنَّ النفسَ التي تبحثُ عَنِ الكمال في الخارجِ، لَنْ تشبعَ أبدًا؛ قالَ رسولُ اللّٰهِ (صلَّى اللّٰه عليه وصحبه وسلَّم): "يَهْرَمُ ابْنُ ادَمَ وَتَشِبُّ مَعَهُ خَصْلَتَانِ: الحِرْصُ، وَالأَمَلُ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ". وكذا جاءَ في العهدِ القديمِ: "كُلُّ تَعَبِ الإِنْسَانِ لِفَمِهِ، وَمَعَ ذلِكَ فَالنَّفْسُ لَا تَمْتَلِئُ" [الجامعة ٦: ٧].

َوقد قلتُ في مستهلِّ إحدى قصائدِي:

(أَرْجُو كَمَالًا وَهْوَ فِي الدُّنْيَا مُحَالُ

وَكُلَّمَا بَدَتِ الحِسَانُ أُمَالُ

أَمْلَيْتُ وَهْمِي مِنْ سَرَابِ الحُلْمِ ظِلًّا

لَيْسَ فِي ظِلِّ الجَمَالِ جَمَالُ)

وهكذا تكشفُ (شجرة البؤس) كيف أنَّ الإنسانَ لا يشقى بِفَقْرِهِ، بَلْ بِطَمَعِهِ، ولا يتعذَّبُ بقبحِ غيرِه، بل بعجزِه عَنْ قبولِ واقعِه وقِسْطِهِ مِنَ فِنَاءِ فَنَاءِ الدنيا.

 

التحليل الدينيُّ: (الرضا والابتلاء في رؤيته الإيمانيَّة)

مِنَ المنظورِ الدينيِّ، تُذَكِّرُنا روايةُ (طه حسين) بقولِ الحقِّ سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (٤)} [البلد]، وقولِه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً (٣٥)} [الأنبياء]؛ فإنَّ (خالد) قد تاهَ عَنْ هذه السُّنَّةِ الإلهيَّةِ في هذه الدارِ؛ حيثُ ظنَّ أنَّ الغنى والسعادةَ في امتلاكِ الجمالِ، غافلًا عَنْ أنَّ الابتلاءَ يُسَرْبِلُ العطايا كما يُسَرْبِلُ الرزايا، ويُصَفِّدُ الوسامةَ كما يُصَفِّدُ الدمامةَ، فَلَمْ يبصرْ أنَّ النعمَ لا تجتمعُ، وأنَّ (الرضا بالقسمةِ - Acceptance) مُخُّ الحكمةِ وعينُ السعادةِ لا ترتفعُ.

 

الوهم ظلُّ البؤس والرضا وجه الحقيقة

(شجرة البؤس) هي في الحقيقةِ (شجرة الوهم)؛ فبؤسُ (خالد) لَمْ يكنْ قَدَرًا محتومًا، بل ثمرةً طبيعيَّةً لشجرةٍ زرعَها بِيَدَيْهِ؛ وذلك حينَ فَقَدَ البصيرةَ، وهوى في قعرِ الظنِّ، وجعلَ للمظاهرِ سلطانًا على قراراتِه. والعلاجُ يكمنُ في قولِه تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (١٣١)} [طه]. 

 

إضاءة: (علَّة اختلاف الخلق) 

يروي الإمامُ مُحَمَّدٌ الباقرُ حديثًا قدسيًّا لسؤالِ أبينا آدمَ (عليهما السلام) عَنْ عِلَّةِ اختلافِ الخليقةِ مِنْ ذرِّيَتِهِ، بعدَ أنْ رآهُم في عالمِ الذَّرِّ على هذا النحوِ: "قَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ! لَوْ كُنْتَ خَلَقْتَهُمْ عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ، وَقَدَرٍ وَاحِدٍ، وَطَبِيعَة وَاحِدَةٍ، وَجِبِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَلْوَانٍ وَاحِدَةٍ، وَأَعْمَارٍ وَاحِدَةٍ، وَأَرْزَاقٍ سَوَاءٍ، لَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَحَاسُدٌ وَلَا تَبَاغُضٌ، وَلَا اخْتِلَافٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ؟!

فَأَجَابَهُ تَعَالَى:... لِأَبْلُوَهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِيمَا عَافَيْتُهُمْ وَفِيمَا ابْتَلَيْتُهُمْ، وَفِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَفِيمَا أَمْنَعُهُمْ، وَأَنَا اللّٰهُ المَلِكُ القَادِرُ، وَلِي أَنْ أَمْضِيَ جَمِيعَ مَا قَدَّرْتُ عَلَى مَا دَبَّرْتُ، وَلِي أَنْ أُغَيِّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا شِئْتُ إلَى مَا شِئْتُ؛ فَأُقْدِّمُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخَّرْتُ، وَأُؤَخِّرُ مَا قَدَّمْتُ، وَأَنَا اللّٰهُ الفَعَّالُ لِمَا أُرِيدُ، لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَأَنَا أَسْأَلُ خَلْقِي عَمَّا هُمْ فَاعِلُونَ".

وهُنَا تتجلَّى الحكمةُ التي لطالما خَفِيَتْ عَنِ العيونِ المُتَعَجِّلَةِ، وتوارتْ عَنِ القلوبِ المُقَفَّلَةِ؛ إذِ الاختلافُ في الخَلْقِ ليسَ عَبَثًا، بَلْ معنًى في سُلَّمِ العِبَرِ، وسِرًّا في سِفْرِ القَدَرِ، ومَعْبَرًا إلى فَهْمِ مَن لَهُ الحكمةُ في صُنْعٍ ما لا يُنْكَرِ. 

➖➖➖➖➖➖➖➖

د. السيد حسين علي الحسيني 

واتساب: 009613804079



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 وَهْمُ الكمالِ

 شجرة_البؤس: (رؤية تحليليَّة)

 مَنْ لَا يُصْلَحُ تَرْكُهُ أَصْلَحُ

 كيمياء الحب واختيار الشريك (الدوبامين - الأوكسيتوسين)

 إطالة العزاء الحسيني لأكثر من ثلاثة أيام

 صفات اللّٰه

 آداب تطبيقات التحادث

 الشذوذ في الكتب السماوية

 الفرقة الناجية

 طاقة التسليم الروحي

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 أعمال الليلة الأولى من شعبان

 التكبيرات

 البنوك والربا

 إمكان تغيُّر الأخلاق

 غزوة بدر

 عِدَد الطلاق والوفاة والزواج المؤقت

 إمامة الأئمة بعد علي وأنهم أهل البيت (عليهم السلام)

 الاكتئاب الصباحي

 أحكام النفاس

 وجوب حج التمتع وأعماله

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net