﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 التسليم عند ديفيد هاوكينز  

القسم : متفرقات ثقافية   ||   التاريخ : 2025 / 09 / 11   ||   القرّاء : 30

✍️ التسليم عند ديفيد هاوكينز

يطالعنا الطبيب النفسيُّ الأمريكيُّ (ديفيد هاوكينز - David Hawkins) في كتابه الأشهر (السماح بالرحيل - Letting Go) بفكرة محوريَّة مؤدَّاها أنَّ معظم معاناة الإنسان متأتِّية مِنَ التشبُّث بالمشاعر السلبيَّة؛ سواء المرتبطة بالماضي كالحزن والمرارة، أم الممتدة نحو المستقبل كالخوف والقلق.

ويقترح (هاوكينز) ما يسمِّيه (آليَّة التسليم - The Letting Go Technique)؛ أي فسح المجال لهذه الانفعالات كي تمرَّ مِنْ دون مقاومة أو إنكار؛ بحيث يتحوَّل الوعي تدريجيًّا مِنْ دوائر الانقباض إلى فضاءات الانفتاح والسكينة، وصولًا إلى أرقى مستويات السلام الداخليِّ.

 

من المنظور الفلسفي 

ينطلق المؤلِّف مِنْ رؤية وجوديَّة ترى أنَّ الإنسان أسير ما يتشبَّث به مِنْ أفكار وانفعالات، وأنَّ الحريَّة لا تتحقَّق بكثرة ما نملك، بل بقدرتنا على التخفُّف مِمَّا يثقلنا.

فالحكيم لا يسأل: ماذا أُضيف إلى حياتي؟ بل عمَّ أتخلَّى ليصفو عقلي ويشرق قلبي؟

وبهذه العبارة الذهبيَّة يضع المؤلِّف فلسفة الانفصال عَنِ التعلُّق تعكس فلسفة قريبة مِنْ حكمة الرواقيِّين والمتصوِّفة؛ حيث يصبح (التسليم) فعلًا عقلانيًّا يحوِّل الوعي مِنْ دائرة الألم إلى فضاء الاتِّساع والسكينة.

 

من المنظور النفسي 

يوضِّح (هاوكينز) أنَّ المشاعر المكبوتة تتراكم كطاقة ضاغطة تُشوِّه إدراكنا وتزيد مِنْ قلقنا وتوتُّرنا. أمَّا السماح للمشاعر بالظهور، ثُمَّ الإفلات منها بلا محاربة، فهو يشبه آليَّة علاجيَّة قريبة مِنْ أساليب العلاج بالقبول والالتزام (ACT)، أو العلاج السلوكيِّ المعرفيِّ، فيعيد للنفس توازنها، ويحرِّر الفرد مِنْ دوائر الخوف والاكتئاب والغضب. فالتسليم هنا ليس استسلامًا للعجز، بل تِقْنِيَّة علاجيَّة تُذيب صراعات النفس، وتفتح المجال لتجربة انفعاليَّة أكثر صحَّة وانسجاما؛ إذ تتحوَّل المعاناة إلى تجربة واعية قابلة للتجاوز، وتتحرَّر النفس مِنَ الصراعات الداخليَّة.

 

من المنظور الاجتماعي 

يشير المؤلِّف إلى أنَّ العلاقات الإنسانيَّة تتأذَّى حين نتمسَّك بالتحكُّم والسيطرة والانتظار القهريِّ مِنَ الآخرين. فإذا تعلَّم الفرد فنَّ (السماح بالرحيل)، صار أكثر قدرة على التواصل بلا شروط، وعلى بثِّ الطُّمأنينة بدلًا مِنَ الصراع. بذلك تتحوَّل الروابط الاجتماعيَّة مِنْ ساحة مطالب وشكاوى إلى فضاء مشاركة ودعم؛ حيث يصبح الحبُّ عطاءً حرًّا لا قيد فيه ولا مِنَّة.

وهذا لا يقتصر على الروابط الشخصيَّة فحسب، بل يشمل البيئات الأوسع مِنَ الأسرة إلى العمل؛ حيث ينخفض التوتُّر ويزداد التعاون. فالتسليم لا يعني الانسحاب مِنَ المجتمع، بل إعادة صياغة الحضور فيه بنَفَسٍ أكثر طُمأنينة.

 

من المنظور الديني والروحي 

يجد (التسليم) جذوره في مقاصد الأديان؛ حيث دعوة الأنبياء إلى ترك التعلُّق بالفاني، والثقة بالأحد الباقي، والتوكُّل عليه، والتسليم له.

فـ(السماح بالرحيل) هنا هو عودة القلب إلى أصله، وإدراك أنَّ السلام الحقيقيَّ ليس في امتلاك العالم، بل في الانعتاق مِنْ رِقِّه، فهذا هو (الكنز الحقيقيُّ)؛ كما جاء في الإنجيل: "(١٩) لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ (٢٠) بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ (٢١) لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا" [متى: ٦]. 

هذا التسليم الروحيُّ يشرِّع الباب أمام النفس للعروج إلى مقامات الرضا والمحبَّة، باستبدال سربال الحزن والغضب مِنَ الماضي والقلق مِنَ المستقبل، بسربال الطُّمأنينة واليقين والسلام. وقد لخَّص القرآن هذا المعنى بقوله تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (٢٣)} [الحديد]. 

بهذا يصبح السماح بالرحيل تجلِّيا لمعنى (التوكُّل)، ودرجة مِنْ مقامات (الرضا)؛ حيث لا نعود أسيرين لماضٍ، ولا قلقين على مستقبل، بل حاضرين في حضرة الحقِّ، ومخاطَبين بـ{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦)} [الحجر].

وهكذا يلتقي (هاوكينز) مع إرث الحكمة الروحيَّة الكبرى في أنَّ السلام يتحقَّق بالتحرُّر مِنَ التشبُّث، ليحصل الفناء، بل فناء الفناء في اللّٰه تعالى.

 

خاتمة

إنَّ مفهوم (التسليم) عند (هاوكينز) ليس مجرَّد تِقْنِيَّة نفسيَّة، بل رؤية شاملة تتقاطع مع الفلسفة، وتنسجم مع مبادئ العلاج النفسيِّ، وتعيد صياغة العلاقات الاجتماعيَّة، وتجد صداها في الوحي الإلهيِّ والتراث الروحانيِّ.

فالسعادة لا تُنال بمراكمة ما نملك، بل بالتخفّف مِمَّا يقيِّدنا. وحين نسلِّم قلوبنا للحقِّ (جلَّ وعلا)، نذوق حلاوة طُمأنينة الرضا، ويغدو وجودنا أخفَّ وأصفى؛ كجدول رقراق يجري رجوعًا نحو البحر العظيم؛ قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)} [الفجر]. 

➖➖➖➖➖➖➖➖

د. السيد حسين علي الحسيني 

واتساب: 009613804079 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 التسليم عند ديفيد هاوكينز

 العدالة الاجتماعية بين الفطرة والتجربة

 هل النبيُّ أمِّيٌّ

 نشر الأعمال العباديَّة عن النبيِّ وأهل البيت

 ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر

 التحايل السياسي (الإمام علي والمغيرة - نُصْحُ اليومِ وتحايلُ الغدِ)

 الإسلام القرآني

 انتقال السيدة العذراء

 أرز الله

 جراح الطفولة وأقنعة الأنا

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الألعاب والمزاح

 سياسة المرياع والقرقاع (في الأدب السياسيّ)

 دعاء الافتتاح

 عقيدتنا في الإمام المهدي (عليه السلام)

 العدالة

 التسليم عند ديفيد هاوكينز

 شروط المغسِّل

 حكمة الطير

 تنزه اﻷنبياء عن أية عاهة بدنية

 نادتنا الأرض

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net