﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 مرحلة الشيخوخة 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 16217

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي توحّد بالعظمة والجمال، وتفرّد بالكبرياء والكمال، له العلو الأعلى فوق كل عال، والجلال الأمجد فوق كل جلال. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأئمة، ساداتِ الجنان، وأمناءِ الرحمن، ونُطقِ القرآن، وركنِ الأركان. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله >هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ< غافر 67. 

          ها قد وصلنا إلى خاتمة مراحل هذه الدنيا الفانية، بعد الطفولة وعجزها، وبعد الشباب وقوته، تأتي مرحلة الشيخوخة.

       ومرحلة الشيخوخة ليست مرضا، وإنما هي مرحلة يتغير فيها الإنسان تغيرا فيزيولوجيا، وتبدأ في سن الخمسين. وهي مرحلة الضعف الوقور؛ حيث يبدأ الواحد منا بمراجعة حساباته، وتقييم ماضيه، أمِن الصالحين كان، أم من الطالحين؟ فإن كان محسنا زاد في إحسانه واغتنم ما بقي من عمره بصالح الأعمال، وإن كان مسيئا، سأل الله (عز وجل) أن يتجاوز عن سيئاته، ثم عمل على تصحيح مساره لتبيَّض صفحته، وتكون عاقبته إلى خير.

       وقد أعطى الإسلام هذه المرحلة المكانة الأرفع؛ فرأى أن من الوفاء للأجيال السابقة من المسنين، أن لا يُهمَلوا ولا يُترَكوا فريسة للضعف والحاجة في آخر حياتهم، بعد أن قدّموا لعوائلهم  وأمتهم ما بوسعهم. فأوجب رعايتهم والعناية بهم، وفرض احترامهم وتوقيرهم؛ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "بجلوا المشايخ، فإن تبجيل المشايخ من إجلال الله (عز وجل)"، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا". وقال: "الشيخ في أهله، كالنبي في أمته".

       كما ينبغي لنا أن نعلم أن الإسلام كان سباقا في الإيصاء بالرعاية الاجتماعية للمسنين، أما المظاهر السلبية التي نراها اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية، فهي غريبة عن الإسلام، وهو منها براء، فلم يؤدبنا الإسلام على ترك الذين ضحوا بعمرهم وصحتهم وفكرهم من أجل أن تظل عجلة الحياة سائرة نحو الأمام، فنهمل الكبير بعدما استخدمناه، واستهلكنا قواه، وإنما فرض على الأولاد بالدرجة الأولى تأمين حاجيات آبائهم، فلا يحبسوهم في دور العجزة إذا كانوا قادرين على الاهتمام بهم، والاضطلاع بشؤون رعايتهم، وإن كانوا كفارا، بل وإن أمرونا بالكفر؛ قال تعالى: >وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا< لقمان 15.  

       هذا مع وجود الولد القادر. أما مع عدمه، فما هي مسؤولية الدولة الإسلامية حينها؟  ننقل لكم هذه الحادثة: "مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما هذا؟ قالوا يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال".

       هذا هو الإسلام الذي أراده الحق سبحانه أن يكون كمال الدين، وتمام النعمة، هذا هو الإسلام الذي تركه المسلمون، ولجؤوا إلى ثقافة الغرب؛ لأنهم وجدوها تحترم الإنسان بعدما أعرض الكثير من المسلمين عن تعاليم دينهم، فاكتفوا بتسمية مؤسساتهم بأسماء الأنبياء والأئمة، وهم في الواقع يسيئون للأنبياء والأئمة، بغصبهم حقوق الناس، وسلبهم كراماتهم.

       نعود إلى مرحلة الشيخوخة لنقول: إن مرحلة الشيخوخة مرحلة حساسة يكون العقاب فيها مضاعفا، والوقوع فيها أخطر، فإن كان للشاب ما يبرر وقوعه في المعاصي؛ من غلبة قوته الغضبية، وسيطرة غريزته الشهوانية، فليس للشيخ مبررات بعدما خارت قواه، واشتعل الرأس شيبا، من هنا كان حكم الشيخ إذا زنا الجلد والرجم، بينما حكم الشاب المحصن إذا زنا الرجم فقط. وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "إذا بلغ الرجل الأربعين سنة، ولم يغلب خيرُه شرَه، قبّل الشيطان بين عينيه، وقال: هذا وجه لا يُفلِح".

       لا نقصد من وراء ذلك أن ندعو الشيخ إلى اليأس، وترك متع الدنيا، وعد ما بقي له من أيام، فإن الأجل لا يعلمه إلا الله، وكما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):       

تؤمل في الدنيا طويلا ولا تدري                         إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة                         وكم من عليل عاش دهرا إلى دهر

وكم من فتى يمسي ويصبح آملا                               وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

 

       إذًا لم يدعُ الإسلامُ الشيخَ المسن إلى التشاؤم، أبدا! وإنما دعاه إلى احترام شيبته، وتوقير عمره؛ حيث لا يليق به كثير من الأمور التي كان يمارسها حينما كان في مقتبل العمر، في مشيه، ولبسه، وكلامه، فكما ورد عن النبي الكريم (صلة الله عليه وآله وسلم): "خير شبابكم من تشبه بكهولكم، وشر كهولكم من تشبه بشبابكم".

       ولا يعني ذلك أن يضع المسن حاجزا بينه وبين الشباب ورغبته في التجدد والحداثة، فأن يكون الإنسان مسنا لا يعني أن عجلة الحياة قد توقفت عنده، بل يعني أنه هو من يقود ويوجه حركة الشباب؛ بخبرته وسعة أفقه.

       وفي مجال العبادة على الشيخ بعدما خفت مسؤولياته، أن يعطي العبادة الوقت الكبير، فلا داعي لإمضاء الساعات الطويلة أمام شاشة التلفزيون؛ لأن قراءة القرآن أولى وأعود، ولا هدر الوقت في الأحاديث التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فإن ذكر الله أحسن؛ قال تعالى: >وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)< طه.  

       وأوصى إمامنا زين العابدين (عليه السلام)  فقال: " أيها الناس أحذركم من الدنيا وما فيها، فإنها دار زوال وانتقال،
تنتقل بأهلها من حال إلى حال قد أفنت القرون الخالية، والأمم الماضية الذين كانوا أطول منكم أعماراً وأكثر منكم آثاراً،
أفنتهم أيدي الزمان، واحتوت عليهم الأفاعي والديدان، أفنتهم الدنيا فكأنهم لا كانوا لها أهلاً ولا سكاناً، قد أكل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدد أوصالهم وشمائلهم، وغير ألوانهم وطحنتهم أيدي الزمان. أفتطمعون بعدهم بالبقاء؟ هيهات هيهات! لا بد لكم من اللحوق بهم، فتداركوا ما بقي من أعماركم بصالح الأعمال، وكأني بكم وقد نقلتم من قصوركم إلى قبوركم فرقين غير مسرورين، فكم والله من فاجر قد استكملت عليه الحسرات، حيث لا يقال نادم ولا يغاث ظالم. قد وجدوا ما أسلفوا، وأحضروا ما تزودوا، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً.  فهم في منازل البلوى همود، وفي عساكر الموتى خمود، ينتظرون صيحة القيامة، وحلول يوم الطامة ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى".

 

       وما أحسن أن يستغل الشيخ وقت فراغه في زيارة أولاده وأقاربه، فيعظهم، ويرشدهم، ويقدم لهم خبرته في الحياة، ويذكرهم بأنها تمر مر السحاب، فلا يصح للعاقل أن يجعلها منتهى همه، وغاية سؤله، فالعمر كما يقولون "غفلة". فهذا هو تواصل الأجيال، وتنامي الخبرات، وتلاقح الأفكار الذي تتكامل معه حياتنا.

       وكم يسوؤني رؤية شيخ يدعو أولاده أو أحفاده إلى استباحة المحرمات لإشباع رغبتاهم، قائلا: "عيشوا حياتكم"، فنقول لهم: بل قولوا "عيشوا حياتكم بالطول والعرض، ولكن بما يرضي الله، وبما يليق بكم كأفراد مسلمين صالحين، عالمين أن هذه الدنيا ممر لكم، وليست مقرا، ومدركين أن أيام الدنيا قليلة، وما عند الله خير وأبقى". وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ألم تر أن الدهر يوم وليلة          يمران من سبت يفوت إلى سبت

فقل لجديد الثوب لا بد من بلىً         وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت

       واعلموا مشايخنا وكبارنا ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من "أن الله ليكرم أبناء السبعين، ويستحيي من أبناء الثمانين أن يعذبهم". فحري بنا أن نستحي من ربنا فلا نعصيه في شبنا، ونتجرأ على ساحته في كبرنا.

نسأل الله الرؤوف الرحيم أن ينبت أطفالنا منبتا حسنا، وينشئ شبابنا منشأ طيبا، ويحسن عاقبة كبارنا، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث العقائدية

البحوث الفقهية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 العلاج من المرض

 القرض

 متفرقات الحج

 الخروج من مكة في عمرة التمتمع وبعدها

 أدنى الحل والمواقيت

 وجوب حج التمتع وأعماله

 الجماع في العمرة المفردة

 أحكام العمرة المفردة

 دخول مكة

 الحج عن الميت

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الوهّاب

 الغضب

 القريب الواسع

 المناجاة الرابعة : مناجاة الراجين

 الدفن

 متفرقات الزواج

 بقية الأخبار في الإمامة

 هل يتحد الله مع غيره؟

 آداب العلاقة الزوجية

 الدين معاملة

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net