﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

  

القسم : متفرقات ثقافية   ||   التاريخ : 2025 / 08 / 18   ||   القرّاء : 11

العدالة الاجتماعية بين الفطرة والتجربة ​​​​​​ (تجربة القردتينِ الكبوشيَّتينِ) ​​​

مقدمة

هذه التجربة مِنْ أشهر التجارب في (علم السلوك المقارن)، أجراها عالم الأحياء والسلوك الحيوانيِّ الهولنديُّ (فرانس دي وال - Frans de Waal)، مع الباحثة وعالمة النفس الأميركيَّة (سارة بروسنان - Sarah Brosnan) سنة ٢٠٠٣م على (قردتين كبوشيتين - Capuchin monkeys).

وقد نُشرت التجربة في مجلَّة (Nature) سنة ٢٠٠٣م تحت عنوان:

(Monkeys reject unequal pay). 

 

تفاصيل التجربة

أجريت هذه التجربة على (قردتينِ كبوشيَّتينِ)؛ حيث تمَّ إعطاء كلٍّ منهما حصاة، ثمَّ طُلِبَ مِنَ الأُولى أنْ تردَّ الحصاة، ففعلت، فكوفئت بخيارة فرحت بها وتلذَّذت بأكلها، بينما كوفئت الأخرى بعنقود عنب، ففرحت به أيضا، إلَّا أنَّه أثيرت حفيظة الأُولى ممتعضة مِنْ عدم العدالة في المكافأة رغم تساوي التجربة بينهما. 

أعاد الباحثان الكرَّة، فردَّت الأُولى الحصاة، ولكنَّها ظلَّت ممسكة على الخيارةِ المكافأةِ دون تناولها ريثما ترى مكافأة القردة الثانية. وحينما رأت أنَّه تمَّت مكافأتها بعنقود عنب آخر، رمت الأُولى خيارتها مِنْ يدها دون أن تتناول منها قضمة واحدة. وفي المرة الثالثة، وبمجرَّد إعطاء القردة الأُولى الحصاة، لم تنتظر مكافأتها، بل سارعت إلى رمي الحصاة في وجه الباحثة مباشرة؛ وذلك اعتراضا على عدم العدالة المتكرِّرة في المكافأة.

 

نتيجة التجربة 

أظهرت هذه التجربة أنَّ هذه الكائنات ترفض المكافآت غير المتكافئة، بل تحتجُّ عليها وترفض التعاون حين تشعر بالغبن. وأنَّ الإحساس بالعدالة وعدم المساواة ليس حكرًا على الإنسان فقط، بل له جذور بيولوجيَّة وفطريَّة مشتركة مع بعض الرئيسيَّات.

هذه النتيجة فتحت بابًا واسعًا للنقاش حول أصل الشعور بالعدالة:

أهو عقد اجتماعيٌّ مكتسب، أم نزعة فطريَّة ضاربة في عمق الطبيعة؟

هذا البحث الذي بين أيدينا يلقي الضوء على التجربة من أربعة مناظير: الفلسفيِّ، النفسيِّ، الاجتماعيِّ، والدينيِّ.

 

1️⃣ المنظور الفلسفي 

في الفلسفة الكلاسيكيَّة، منذ الفيلسوف اليونانيِّ (أفلاطون / ٤٢٧ – ٣٤٧ ق.م)، إلى الفيلسوف السويسريًّ (روسو / ١٧١٢ – ١٧٧٨م)، رُبِطَتِ العدالة بالنظام الاجتماعيِّ أو العقد المبرم بين الأفراد، غير أنَّ تجربة القردة تكشف أنَّ العدالة قد تكون سابقة على التعاقد البشريِّ، إذ إنَّ الكائن غير العاقل يحتجُّ على غيابها.

وهنا يتجلَّى ما ذهب إليه تلميذ (أفلاطون) الفيلسوف اليونانيًّ (أرسطو / (٣٨٤ – ٣٢٢ ق.م) حين وصف الإنسان بأنَّه (حيوان سياسيٌّ)؛ أي إنَّ نزعة التنظيم والعدل جزء مِنَ الطبيعة لا مِنَ الاتفاق وحده.

 

2️⃣ المنظور النفسي 

إنَّ علم النفس التجريبيَّ يبيِّن أنَّ الإحباط لا ينشأ مِنَ الحاجة البيولوجيَّة وحدها، بل مِنَ المقارنة الاجتماعيَّة؛ فالقرد لا يرفض الخِيار لأنَّه لا يشبعه، بل لأنَّه رأى الآخر يُكافَأ بما هو أطيب.

وهنا يقارب ما يسمِّيه علماء النفس (العدالة الإدراكية - Equity Theory)؛ حيث يقيس الفرد رضاه بما يحصل عليه مقارنةً بما يناله الآخرون.

 

3️⃣ المنظور الاجتماعي

إنَّ المجتمعات البشريَّة،؛ كالمجتمعات الحيوانيَّة، لا تستقرُّ بالردع وحده، بل بالثقة والشعور بالمساواة. وإنَّ استمرار التفاوت الفجِّ في المكافآت والحقوق، يولِّد العصيان والانفصال.

وهذا ما تؤكِّده التجربة على نحو رمزيٍّ؛ فكما أنَّ القرد رمى حَصَاتَه رافضًا التعاون، كذلك الإنسان قد يرفض الانخراط في منظومة اجتماعيَّة لا تضمن له عدالة التوزيع.

 

4️⃣ المنظور الديني

إنَّ الديانات السماويَّة تضع العدالة في قلب رسالتها.

- ففي العهد القديم مِنَ الكتاب المقدَّس، نقرأ: "فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَفِي ذلِكَ الزَّمَانِ أُنْبِتُ لِدَاوُدَ غُصْنَ الْبِرِّ، فَيُجْرِي عَدْلاً وَبِرًّا فِي الأَرْضِ" [إرميا ٣٣: ١٥]. 

- أمَّا الإسلام، فقد جعل (العدل) الأصل العَقَدِيَّ الثاني بعد (التوحيد)، والفريضة المطلقة التي لا محيص عن تحقُّقها كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ (٩٠)﴾ [النحل].

هذه النصوص تكشف أنَّ العدالة قيمة إلهيَّة، وفطرة كونيَّة في آن واحد، وأنَّها ميزان الشرائع والحياة.

 

زبدة المخاض 

إنَّ تجربة (القردتينِ الكبوشيَّتينِ) قدَّمت برهانًا علميًّا على أنَّ الشعور بـ(العدالة) ليس ابتكارًا بشريًّا صِرْفًا، بل نزعة فطريَّة لا تبديل لها، وهي مشتركة بين الكائنات الاجتماعيَّة.

فَمِنَ المنظور الفلسفيِّ، يظهر أنَّ (العدل) سابق على التعاقد. بينما مِنَ المنظور النفسيِّ، يتَّضح أنَّ (العدل) متَّصل بالانفعال والمقارنة. أمَّا مِنَ المنظور الاجتماعيِّ، فيتأكَّد أنَّ (العدل) شرط للتماسك الجماعيِّ. وأخيرًا مِنَ المنظور الدينيِّ، يثبت أنَّ (العدل) أمر إلهيٌّ وفطرة غُرست في نفوس كائناته الحيَّة.

وهكذا تتضافر التجربة والعقل والنفس والمجتمع والوحي، لتقرِّر أنَّ (العدالة) ليست خيارًا ثانويًّا، بل هي جوهر الوجود الإنسانيِّ، وشرط العمران، بل غاية ظهور المخلِّص؛ كما في الحديث النبويِّ الشريف:

"يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي، اسْمُهُ كَاسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، فَذَلِكَ هُوَ المَهْدِيُّ". 

➖➖➖➖➖➖➖➖

د. السيد حسين علي الحسيني 

واتساب: 009613804079 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 

 انتقال السيدة العذراء

 أرز الله

 جراح الطفولة وأقنعة الأنا

 الذكورية في استعراضات الأنثى

 العائلة نواة المجتمع

 وَهْمُ الكمالِ

 شجرة_البؤس: (رؤية تحليليَّة)

 مَنْ لَا يُصْلَحُ تَرْكُهُ أَصْلَحُ

 كيمياء الحب واختيار الشريك (الدوبامين - الأوكسيتوسين)

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 إعادة البكارة والتدليس

 شعبان

 وجوب الإمامة

 المضاربة

 مسلسل العشق الممنوع

 زينة النساء والتشبه بهن

 سياسة التمساح (في الأدب السياسيّ)

 الإمام الحسن بن عليّ المجتبى (عليهما السلام)

 رمضان مهبط الكتب السماوية

 الإظهار الشفـوي

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net