القضاء والقَدَر:
القَدَر: " هو جعْل لكلّ حادث مِقْدارا وحدودا وكميّة وكيفيّة وزمانيّة ومكانيّة معيّنة ، في تحقّقه بفعل العِلَل والعوامل التدريجيّة . أمّا القضاء الإلهيّ : فهو إيصال الشّيء إلى مرحلته النهائيّة والحتميّة بعد توفّر المقدّمات ، والأسباب ، والشّروط لذلك الحادث " (1).
وهكذا فإنّ مرحلة التقدير مقدَّمة على مرحلة القضاء ، والفرق بينهما : هو أنّ القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ (2)، والقَدَر وجودها متفرّقة في الأعيان بعد حصول شرائطها " (3).
" عن عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد وغيرهما رفعوه قال : كان أمير المؤمنين عليه السّلام جالسا بالكوفة بعد مُنْصَرَفِه من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (4)، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشّام ، أبِقَضَاء من الله وقدر ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام أجل:يا شيخ ؛ما عَلَوْتُم تَلْعَة (5)، ولا هبطتم بطنَ وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر ، فقال له الشيخ : عند الله أحْتَسِبُ عَنَائي (6) يا أمير المؤمنين ؟ فقال له : مه (7) يا شيخ ! فوالله لقد عظّم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي مُنْصَرَفِكُم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكْرَهين ، ولا إليه مضطّرين . فقال له الشّيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ فقال له : أوَتظنّ أنّه كان قضاءً حتما وقَدَرًا لازِما ؟! إنّه لو كان كذلك (8) لبَطَلَ (9) الثّوابُ والعقابُ والأمر والنهي والزّجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائِمَةٌ للمذنب ، ولا مَحْمَدَةٌ للمُحْسِن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المُحْسِن ، ولكان المُحْسِنُ أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالةُ إخوان عبدة الأوثان ، وخُصَمَاء الرّحمن ، وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الأمّة ، ومجوسها . إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يُعْصَ مغلوبا ، ولم يُطَعْ مُكْرَهًا ، ولم يُمَلِّك مُفَوِّضًا ، ولم يخلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثا ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار " . فقال الشّيخ : فما القضاء والقدر اللذان ما سِرنا إلا بهما ؟ فقال عليه السّلام : هما الأمر من الله والحكم ، ثمّ تلا قوله سبحانه : ﴿وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاه وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (10).
بيّن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ ما يصيبنا من خير أو شرّ هو بسببنا ، وليس مفروضا علينا ، إلا أنّ الفعل لا يخرج عن قضاء الله وقـدره ، أي أنّ للإنسان هامشا من الإختيار في أفعاله وسكناته يجعله مستحقّا للثّواب والعقاب . وإلا لولم يملك الإرادة ، وكان مجبرا على أفعاله ، لكان عقابه الظلمَ بعينه ، كما تصبح إثابته عليها قبيحة ، لأنّها من قبِيل الإبتداء بالثّواب (11)، وهو محال .
وهكذا اتّضح لك أنّ هذا المبحث لايتمّ إلا بالخوض في مسألة الجبر والتفويض ، لذا أفردنا لها المبحث التالي .
_____________________ (1) دروس في العقيدة الإسلاميّة ج1 : 179 / ط . دار الحقّ . (2) اللوح المحفوظ أو أمّ الكتاب : " هو الكتاب الذي كُتِبَ فيه ما يصيب الإنسانَ طِيلةَ حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرّق إليها المحوُ والإثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو تمكّن الإنسانُ أن يتّصل به ، لوَقَفَ على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف " . (أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة ) للشيخ جعفر السّبحانيّ صفحة 448 .وعن عليّ (عليه السلام ) قال : " اللوح المحفوظ : هو درّة بيضاء له دفّتان من ياقوتة حمراء ، وعرضه خمسمائة عام ، وطوله خمسمائة عام ، كلامه البرق ، وخطّه النّور ، وأعلاه معقود بالعرش ، وأسفله في حِجْر ملك وهو إسرافيل ( عليه السلام ) صاحب اللوح ، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يوحيَ ، أو يُفْضِيَ إليه شيئا ، بعث الله ريحا من تحت العرش ، فحرّكتِ اللوحَ ، فهبط اللوحُ حتى يقرعَ جبهةَ إسرافيل ( عليه السلام ) ، فينادي عند ذلك إسرافيلُ جبريلَ ( عليهما السلام ) ، فيأخذ أهل السّماء الغِشاء فلا يبقى في السّماوات ملك إلا قطع عليه صلاته ، فإذا صعد إليه جبرئيلُ دفع الوحي إليه ، فمرّ بأهل سماء سماء ، وهو راجع يقولون : ماذا قال ربّك ؟ فيقول لهم جبرئيل : الحقّ وهو العليّ الكبير يقضي بالحقّ ، وهو خير الفاصلين ". (عجائب أمير المؤمنين) للسيّد محسن الأمين صفحة 212 . "ويقابِل اللوح المحفوظ ، لوح المَحْوِ الإثبات : " وهو الذي أشار إليه سبحانه بقوله في سورة الرعد الآية 39 : ﴿ يَمْحُوا الله ُمَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ ﴾ ؛ فالأحكام الثابتة فيه أحكام معلقة على وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغيّر فيها لأجل إعواز شرطها ، أو تحقّق مانعها ؛ فمثلا يمكن أن يكتب فيه الموت نظرا إلى مقتضياته في الوقت المعيّن المتّصل بالمقتضيات ، إلا أنه ربّما يمحى ويؤجّل ، ويكتب بدله توفّر الصّحّة ، لفقدان شرط التقدير الأوّل ، أو طُرُوِّ مانع من تأثير المقتضي " . (أضواء على عقائد الإماميّة ) صفحة 448-449 . (3) " التعريفات " للجرجاني صفحة 174-175 / ط . دار الكتب العلميّة . (4) جثا يجثو جُثُوًّا وجَثِيًّا: جلس على ركبتيه وقام على أطراف أصابعه . (5) والتَلْعَة : ما ارتفع من الأرض . (6) أي منه أطلب أجْر مشقّتي .
(7) اسم فعل أمر بمعنى اُكفُفْ . (8) " أي قضاء محتوما لا دخل لاختيار العبد فيه ، وقدرا لا مدخل لإرادته فيه ". حاشية الكافي ج 1 : 207 / ط . دار التعارف . (9) " لأنّ الثواب نفْعٌ يستحقّه العبد بالإتيان بالطّاعات ، والاجتناب عن المنهيّات . والعقاب ضرر يستحقّه بالإتيان بالمنهيّات والاجتناب عن الطاعات ، وهما تابعان للاختيار ، ولا يتحقّقان مع الإجبار" . حاشية المصدر السّابق . (10) سورة الإسراء الآية : 23 . ومصدر الرّواية " الكافي " ج 1 : 205-206-207 / ط . دار التعارف . (11) فالعقلاء يذمّون الإبتداء بالثّواب من دون سابق تكليف .
|