﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 أثر الدم الحسيني على عالم التكوين 

القسم : محاضرات عاشورائية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 28   ||   القرّاء : 15601

       قال تعالى: >إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا< الأحزاب 72.

       ما هي الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها؟ ولماذا كان ظالما جاهلا بحملها؟

       الأمانة هذه هي التكاليف الشرعية. وعرضها على السماوات والأرض والجبال حتى أبت وأشفقت من حملها، إشارة إلى عِظَم هذه المسؤولية، فكأنها لو عرضت على هذه المخلوقات الكبيرة والعظيمة، لما حملتها، ولكن حملها الإنسان الصغير. وقد حملها الإنسان لامتلاكه قابلية الطاعة اختيارا من خلال العقل الذي كرّمه الله به، وجعله من خلال من عالم الأمر والإبداع، إلا أنه فرّط في هذه الأمانة فكان بذلك ظالما بارتكاب المعاصي، جاهلا باستحقاق العقاب على الخيانة فيها، وجاهلا بإغفاله ما يسعده بأدائها.

          والله لم يحمّل الإنسان الأمانة، ليتركه بعد ذلك يتخبط بين أمواج هذه الدنيا، وإنما بعث إليه مائة وأربعة وعشرين ألف نبيّ، يعلمونه الكتاب والحكمة، ويبقون طريق العروج والتكامل مشرعا أمام العباد، بنشر الخير، وتعليم الأخلاق، ومجابهة الظلم. حتى بعث الله نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ويتمم بنيان مكارم الأخلاق.

وخير من وصّف التغيير الذي أحدثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمتنا، هو جعفر بن أبي طالب، حينما سأله ملك الحبشة (النجاشي): ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟ فقال له جعفر: "أيها الملك! كنا قوم جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نشرك به شيئا، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم".

وهكذا عمل نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) على هداية أمته، ومن ورائهم هداية العالم باتباع الشريعة الكاملة، وقد تحمل في سبيل ذلك ما لم يتحمله نبي حسب تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت".

ولكن بعد وفاته، اضطربت الأمة، واختلف كبارها، حتى آل الأمر بعد خمسين سنة إلى يزيد بن معاوية، الذي وصفه الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه "رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة".

وقال المسعوديّ في "مروج الذّهب" ج2: إنّ سيرة يزيد كانت مثل سيرة فرعون، بل كان فرعون أقلّ ظلما من يزيد في الرعيّة، وإنّ حكومة يزيد صارت عارا كبيرا على الإسلام، لأنّه ارتكب أعمالا شنيعة كشرب الخمر في العلن، وقتل سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيّد شباب أهل الجنّة، ولعن وصي خاتم النبيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وقذف الكعبة بالحجارة وهدمها وحرقها. وذكر جمع من المؤرّخين منهم سبط ابن الجوزي في "التّذكرة" ص 63، استباحة يزيد لمدينة رسول الله ثلاثة أيام سنة 62 للهجرة، حيث هجموا على المدينة فقتلوا كلّ من وجدوه فيها حتى سالت الدماء في الأزقّة والطرق، وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وامتلأت الروضة المقدسة والمسجد بالدم، وسميت تلك الواقعة "الحَرَّة"، وكان ضحيّتها عشرة آلاف من عامّة المسلمين، وسبعمائة قتيل من وجوه أهل المدينة وأشراف المهاجرين والأنصار!!

وأمّا الأعراض التي هتكت والنواميس التي سلبت، فقد جاء في "التذكرة" لسبط ابن الجوزي ص 163 ما رواه عن أبي الحسن المدائني أنّه قال: ولدت ألف امرأة بعد وقعة الحَرَّة من غير زوج. وقد ورد في الصحاح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا".

ولما كانت الرسالةُ أمانةً يحملها الأنبياء، ويورثونها لأوصيائهم، تحرك الإمام لينقذ أمة جده من السقوط في الهاوية، فكان شعاره في خروجه على يزيد: "إني لم أخرج أشرا- الذي حمله أشره أي بطره على الاستكبار- ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق، والله خير الحاكمين".

إذًا، خروج الحسين (عليه السلام) كان في سبيل حفظ الأمانة التي أشفقت السماوات والجبال من حملها، وإنما خرج (عليه السلام) لتوجيه بوصلة الإنسانية إلى طريق الحق، وإعادة شق طريق التكامل وتعبيده أمام بني الإنسان، بعدما أوصده الفسقة والمنحرفون.

أقفال الفساد التي أوصدت الأبواب أمام الترقي إلى الكمال، والعتمة التي نشرها المضللون، كانت تحتاج إلى صدمة عظيمة، وزلزال هائل، يعيد لمصباح الحق ضوءه، ويسلك بنا إلى شاطئ السلام، فكان الدم الحسين الذي حفر الجليل اسمه على ساق العرش: "إن الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة".

وهكذا كان الحسين الاستشهادي الذي فجّر الأبواب المؤصدة أمام حركة التكامل الإنساني، فقال: "إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني".

نعم! إن دم الحسين بن علي (عليهما السلام) باب الهدى، ونحن ببركة هذا الدم عرفنا الحقيقة بعدما كادت أن تضيع بظلمة الطغاة وجهلهم، وبهذا الدم العرشي استعدنا الفرصة لنكون أهلا لحمل الأمانة الإلهية. فالحسين جندي الرب الذي حمل راية الإله أمامنا، لنهتدي بها على درب ذات الشوكة، وليحملها من بعده الأئمة من ذريته، ثم ليتسلمها آخرا المنتقم لدين الله الحجة بن الحسن (صلوات الله وسلامه عليه)، فيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا.

 

فالسلام على الحسين المضحي، والسلام على الحسين المحيين والسلام على الحسين الذي نثر الدماء في فضاء العالم ليضخه في قلوب شيعته حينا بعد حين، تمهيدا لدولة حجة الله في السماوات والأرضين. > وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ< سورة القصص آية 5.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 هل يستحب المشي في زيارة الحسين (عليه السلام)؟

 الحُب والبُغْض بين النبي والآل

 الإمام الحسين بن عليّ الشهيد (عليهما السلام)

 العدالة

 الرغبة في ممارسات الحب فطريتها وشرعيتها

 إجازة السيد في قراءة حفص عن عاصم

 المناجاة الرابعة : مناجاة الراجين

 ستمسي الأرض خالية

 تنزيه المعصومين عن دناءة الآباء وعهر الأمهات

 دعاء كميل

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net