﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 غاية الخلق 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 16336

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله السبوح القدوس، الذي لم يحضره أحد حين برأ النفوس، حارت في ملكوته عميقات مذاهب التّفكير، وحسُر عن إدراكه بصر البصير، فارتدّ إليه طرفه وهو حسير. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأئمة، سادات الأزمان، وقادات أهل الإيمان، المطهَّرين من الدنس والأدران. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله، الذي إليه مرجِعُ العباد، وبين إصبعيه يتقلب الفؤاد. فإنه تعالى عالم بما يفعلون، مطلع على ما يُخفون، لا يُعَجِّل لهم العقوبةَ رحمةً بهم، لعلهم يتقون.

       هناك أسئلة جوهرية لا شك أنها جالت في خواطرنا، وطرقت أسماعنا، وأثارت هواجسنا، فبتنا نبحث عن أجوبة لها، كما يبحث الظمآن عن الماء، والمخنوق عن الهواء، والعليلُ عن الدواء. أن لماذا خلقنا الله؟ وما الغاية من وجودنا؟ وكيف ندرك ما خُلقنا من أجله؟

1- لماذا خلقنا الله؟ وما الغاية من وجودنا؟

وأيُ مجيب أصدقُ من القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يُضل، والمحدث الذي لا يكذب؟! قال تعالى: >وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ< الذاريات 56.

       إذًا الغاية من وجودنا العبادة؟

       2- فما هي العبادة؟

       أكثر الناس يتعاملون مع العبادة على أنها مجرد طقوس مفروضة عليهم، فيسارعون في إنهائها، وكأنها حِمل ثقيل يتعجلون رميه من وراء ظهورهم. مع أن الإنسان لو يستحضر نِعم الله عليه حال عبادته لكفاه ذلك لتخشع جوارحه >وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا...< النحل 18.

          إذًا مشكلتنا مع العبادة أننا لا نفهم معناها، ولا ندرك مبتغاها، فإذا تأملناها لوجدناها ساعةَ تحرر، نعيش فيها مع معشوقنا وخالقنا وراحمنا والرؤوف بنا، فينظر إلينا نظرة رحيمة، يطهِّر بها نفوسَنا، ويذيقها أكسير الطمأنينة الذي لا ظمأ بعده، ويرقيها من نفس أمارة بالمعاصي، إلى نفس لوامة على ارتكباها، إلى نفس مطمئنة بإيمانها غير محتارة فلا يهز عقيدتها حزن أو خوف >أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ< يونس 62؛ كنفس علي الأكبر الذي حينما استيقظ أبو عبد الله (عليه السلام) يوما باكيا، فقال له ولده علي الأكبر: ما يبكيك يا أبه؟ قال (عليه السلام): سمعت في النوم قائلا يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم. فقال: يا أبتاه ألسنا على الحق؟ قال (عليه السلام): بلى، والذي اليه مرجع العباد. قال: فما نبالي اوقعنا على الموت او وقع الموت علينا. إلى نفس راضية بقدرها وبما أوتيت، إلى نفس مرضية رضي عنها ربها فأرضاها، وهذا منتهى سعادتها؛ حيث يحق عليها قوله تعالى: >يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي< الفجر 27-30.

       وعن الصادق (عليه السلام): "من أراد عزًّا بلا سلطان، وكثرة بلا إخوان، وهيبة بلا مال، فلينتقل من ذل معاصي الله إلى عز طاعته".

       إذًا العبادة ليست طقوسا وعادات، وإنما هي تحرر للنفس من ذل المعاصي؛ لتترقى بحركة تكاملية تغلِّب فيها ميلها الروحي والعقلي على ميلها الغرائزي ولكن دون أن تهمشهما، وتنتقل من نفس أمارة إلى نفس لوامة إلى نفس مطمئنة إلى نفس راضية إلى نفس مرضية. والآن نسأل:

       3- إلى ماذا تحتاج العبادة؟

          قال تعالى: >اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا< الطلاق 12.  وقال تعالى في حديث قدسي: " كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف". من خلال الجمع بين هذه الآية المباركة، والحديث القدسي من جهة، وآية >وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ< الذاريات 59. ينتج أن معرفة الله مقدمة ضرورية للعبادة. وينص على ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ حيث قال: "أول الدين معرفته".

       فكيف نعبد إلها لا نعرفه؟ أو نتوجه إلى قبلة لا نعرف ربها؟ من هنا لما سأل ذِعلِب اليماني أمير المؤمنين (عليه السلام): "يا أمير المؤمنين! أرأيت ربك؟ فقال (عليه السلام):أفأعبد ما لا أرى؟! قال: وكيف تراه؟ فقال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه الأبصار بحقائق الإيمان".

       وهكذا عرفنا أن العبادة غاية الخلق، وأنها تحرر للنفس من ذل المعاصي وترقٍّ من النفس الأمارة إلى النفس المرضية، وأنه لا بد أن تسبقها المعرفة. والآن نسأل:       

       4- كيف يتحرر الإنسان بالعبادة؟

       حينما تقول في صلاتك "إياك نعبد" يعني أنك ترفض عبادة غير الله الأحد، فلا تعبد المال، ولا السلطة، ولا الشهوات. وحينما تقول: "وإياك نستعين" يعني أنك تعتقد أن المحيي والمميت والرافع والخافض والمعز والمذل والرازق، هو الله، وما الناس إلا واسطة في إيصال ما كتبه الله إليك. فحينما تعتقد بأن كل شيء بيد الله، تتحرر من عبودية كل شيء سواه سبحانه وتعالى.

       خرج الحسين (عليه السلام) على أصحابه فقال لهم: "أيها الناس! إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه".

       عرفنا الغاية من وجودنا، وهي العبادة، وعرفنا معنى العبادة، وأنها تحرر وترق للنفس  بعد معرفة المعبود، ويكون ذلك من خلال الاعتقاد أن كل شيء بيده سبحانه، والآن نسأل:

       5- هل العبادة تعود بالنفع على الله جل وعلا أم علينا؟

       جاء في خطبة المتقين لأمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه" >يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ< فاطر 15.

       إذًا نحن من نحتاج إلى الله ليهبنا الحياة، ويخرجنا من حيز العدم إلى حيز الوجود، ونحن من يحتاج إلى الله ليمنحنا الحواس والجوارح، ويرزقنا القوت والمال والزوج والولد، نحن من يحتاج إلى الله في وجودنا وبقائنا، وبعثنا ونشورنا، وهو الغني عن عباده أجمعين، حتى عن أنبيائه، لذا غضب سبحانه حينما نسب النصارى المسيح ابن مريم (عليهما السلام) إليه جل وعلا، وكأنه يحتاج إلى ولد أو زوجة؛  فقال: >لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ< المائدة 17.

       فإذا كانت العبادة تعود علينا بالنفع، فلا يعني ذلك، أن لا نقصد منها سوى النفع، فإن العباد كما قال الصادق (عليه السلام) ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة" قول الإمام أنها أفضل العبادة دليل على صحة العبادتين الأوليين، إلا أن الناس أجناس وعلي أشرف هذه الأجناس، وكما قال الشاعر:  فإن تفق الأنامَ وأنت منهم    فإن المسك بعض دم الغزال

       قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إلهي ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك". فحري بنا أن نقتدي آثار هذا الإمام العظيم ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنعبد الله لأنه يستحق أن يعبد.

أسأل الله لي ولكم أن يكتبنا من العابدين وأن يحشرنا مع محمد وآله الطاهرين، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 محرَّم الحرام

 الأسد الأشمر

 مد التمكين

 أحكام الاستحاضة

 الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليهما السلام)

 للتزيّن والاستحمام

 ذو القعدة الحرام

 الموت (1)

 زيارة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) يوم الأحد

 اتجاه القبلة

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net