﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 التجارة 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 15422

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد رب العالمين، خلق الخلق بقدرته، وأسكنهم على الأرض بإرادته، وأغدق عليهم من فضله، وأمرهم بعبادته، فقال عز من قائل: >وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ< الذاريات 56-58. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأئمة، أعلامِ المهتدين، وأنوارِ العارفين. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله، ونظم أمركم وأن لا تقولوا ما لا تفعلون.

       لما كان الإنسان اجتماعيا بطبعه، يعني أنه لا يصل إلى العيش بمفرده من دون التعامل مع أبناء جلدته، كانت التجارة من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها بشكل. فما هو موقف الإسلام من التجارة؟ وما هي مواردها؟ وما هي آدابها؟

       شجع الإسلام على امتهان التجارة، بل قدّمها على غيرها من أصناف التكسب، حتى ورد عن الصادق (عليه السلام)"تسعةُ أعشارِ الرزق في التجارة"، وقال: "التجارة زيادة في العقل"، وقال لمولى له: "يا عبد الله! احفظ عزَّك، قال: وما عزِّي جعلت فداك! قال: غُدُوُّكَ إلى سوقك، وإكرامُك نفسِك". وكيف تكون التجارة عزًّا، يجيب أمير المؤمنين (عليه السلام)"تعرّضوا للتجارة، فإن فيها غنى لكم عما في أيدي الناس".

       قد يتعجب البعض من تحفيز المعصومين الناس على التجارة، فيتوهمون أن هذه الدعوى تتنافى مع دعوتهم (عليهم السلام) إلى الزهد في هذه الدنيا، حتى ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "الدنيا جيفة، وطلابها كلاب"، وقوله: "مثلُ الدنيا مثلُ الأفعى، ليِّن مسها، قاتل سمّها، فأعرض عما يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت من فراقها". هذا التوهم هو الذي دفع محمد بن المنكدر ليعِظ الإمام الباقر (عليه السلام) حينما رآه متكئا على غلامين في ساعة حارة طالبا رزقه، فقال في سره: لأعظنّه، فتوجه إلى الإمام وقال له: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أرأيت لو جاء أجلُك وأنت على هذه الحال، ما كنت تصنع؟ فقال (عليه السلام): لو جاءني الموت، وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة الله عز وجل، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله، فقال: صدقت يرحمك الله! أردت أن أعظك فوعظتني. ولله دره الشاعر حينما قال:

توكل على الرحمن في الأمر كله      ولا ترغبن في العجز يوما عن الطلب

ألم تر أن الله قال لمريم              وهزي إليك الجذعَ تساقَطُ الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزّه      جنته ولكن كل رزق له سبب

       نفهم من ذلك أن الدنيا التي نهينا عن طلبها واللُّهاث وراءها، وأُمِرنا بالزهد فيها، هي دنيا الحرام التي ليس من ورائها سوى كنز المال بأي وجه، ولأي غاية، والتي لا يعقبها النفقةُ في سبيل الله، من دفع المستحقات الشرعية من الزكاة والخمس والصدقات >...وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ< التوبة 34. وإلا فإن طلب الرزق الذي يغنينا عما في أيدي الناس، ويحجزنا عن الوقوع في الحرام، ويعيننا على أمور ديننا، والتوسعة على أهلنا وعيالنا، هو طلب محبوب بل واجب. لذا قال الصادق (عليه السلام): "غنى يحجزك عن الظلم، خير من فقر يحملك على الإثم"، وقال (عليه السلام)"لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه". ولما قال رجل له (عليه السلام)والله إنا لنطلب الدنيا، ونحب أن نؤتاها، فقال: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدق بها، وأحج وأعتمر، فقال (عليه السلام)ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة.

       عرفنا موقف الإسلام من التجارة، والآن نسأل عن موارد التكسب، فهل تجوز التجارة في كل شيء؟

       لما كان الإسلام دينا يسعى لتربية الإنسان على صعيده الشخصي، وتنظيم علاقاته مع الآخرين، وإفشاء العدالة والقيم الأخلاقية، كان من البديهي أن يقنن لنا ما هو ضروري في حياتنا، وهي التجارة، فحرّم معاملات كثيرة لما فيها من مفسدة:

       1- بيع المسكر بكل أنواعه: وشدد عليه لما فيه من ضرر عظيم على المجتمع الإنساني، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسَها، وحارسَها، وعاصرََها، وشاربَها، وساقيها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وبائعَها، ومشتريها، وآكلَ ثمنها".

       2- بيع ما لا مالية له: وهو ما لا منفعة عقلائية له؛ كالميتة، والنجاسة، حتى يحفظ مال الناس، ويأدبهم على الحكمة في التصرف وعدم السفه، قال تعالى: >وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ< البقرة 188. 

       3- بيع ما تنحصر منفعته بالحرام: كآلات القمار، واللهو المحرم >... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ< المائدة 2. فإن كان في المبيع وجه انتفاع محلل جاز بيعه، كالتلفزيون، فإن المشتري قد يشاهد من خلاله المحرمات، كما قد يشاهد المباحات، لذا لا يحرم بيعه وشراؤه.

       4- بيع المال المغصوب، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا بيع إلا فيما تملك".

       5- المعاملات الربوية: ومنه القرض الربوي، يعني أن تدين أحدا وتشترط عليه زيادة حين الوفاء، أو لا تشترط وإنما أن يكون في نيتك أن لا تقرضه إذا لم يعطك فائدة على ما استدان. والربا من أعظم المعاصي، حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا عليّ! درهم ربا أعظم عند الله عز وجل من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام". وما أكثره في أمتنا، حتى ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا"؛ أي الصخرة الملساء.

       عرفنا موقف الإسلام من التجارة، وعرفنا عددا من المكاسب المحرمة، والآن نأتي إلى آداب التجارة، فمن المقولات المشهورة: "التجارة شطارة"، فإن قصدوا بذلك أن التجارة تحتاج إلى حنكة وذكاء، فهذا صائب، وإن قصدوا بالشطارة الاحتيال، فهذا خطأ جسيم، لأن التاجر الشاطر هو الذي يؤمن قوت عياله بما يرضي الله، ولا يطعمهم إلا من حلاله، والتاجر الشاطر هو الذي يحافظ على سمعته، فكم من تاجر أساء لسمعته وسمعة التجار أجمعين، حتى قالوا: "التاجر فاجر"، وما ذلك إلا لأن طبع الناس التعميم في الأحكام، فإن اشتهر صيدلاني بغلاء أسعاره، قال الناس: هؤلاء الصيدلانيون كذا وكذا، وإن غش ميكانيكي في إصلاح سيارة، قالوا: هؤلاء الميكانيكيون كذا وكذا. ومن هنا ينبغي للتجار أن يتحلوا بآداب تحفظ سيطهم، وتحببهم للناس، فيقبلون عليهم، ويطمئنون لهم. من هذه الآداب نذكر:

       1- التفقه في التجارة ليعرف صحيح البيع من فاسده، ويسلم من الربا، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يا معشر التجار! الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر". وقال: "لا يقعدن في السوق إلا من يعقل الشراء والبيع". وقال الصادق (عليه السلام): "من أراد التجارة فليتفقه في دينه، ليعلم بذلك ما يحل له، مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر، تورط الشبهات".

       2- المساواة بين المبتاعين، فلا يعطي سعرا للمماكس وآخر لغيره. نعم يستحب أن يراعي الفقير والمؤمن؛ حتى ورد عن الصادق (عليه السلام): "ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلا أن يشتري بأكثر من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وارفقوا بهم". وكذلك الموعود بالإحسان، قال الصادق (عليه السلام): "إذا قال الرجل للرجل: هلمَّ أحسن بيعك، يحرم عليه الربح".

       3- إقالة النادم، فعن الصادق (عليه السلام): "أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقال الله عز وجل عثرته يوم القيامة.

       4- أن يأخذ بالناقص، ويعطي الراجح. فعن الصادق (عليه السلام): "لا يكون الوفاء حتى يرجَح".

       5- أن لا يمدح سلعته، ولا يذم مشتراه. ولا يبيع في الظلام، ولا يكتم العيب، ولا يحلف. فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "من باع واشترى فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشتريَن، ولا يبيعَن: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع، والذم إذا اشترى". وفي الحلف قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ويل لتجار أمتي من لا والله، وبلى والله".

       6- ترك المرابحة والتولية والمواضعة، فإنها غالبا ما يوقع البائع في الكذب.

       7- ترك الاستحطاط بعد الصفقة؛ فقد روى الصادق (عليه السلام): "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة".

       وبهذا نختم حديثنا اليوم، أسأل الله سبحانه أن يوفقنا لمرضاته، وأن يعيننا على أن لا نأكل ولا نطعم أهلنا إلا من حلال، فإن الحرام لا يدوم، وما تجمعه النملة في سنة، يأخذه الجمل في خُفِّه، وما تجمعه الريح تأخذه الزوابع، >وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ< القصص 60.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 زيارة القبور

 الحضانة والوصاية ونفقة الأولاد في الطلاق

 لبيت الخلاء وأحواله

 المحيي المميت

 الرغبة في ممارسات الحب فطريتها وشرعيتها

 ليلة القدر

 الترتيب في الغسل

 غاية الخلق

 التقاء الحروف

 كثير السفر

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net