الجبر والتفويض:
وفيه ثلاثة مذاهب: الأوّل: المُجَبِّرَة: وهم الذّاهبون إلى أنّه تعالى الفاعل لأفعال المخلوقين، سواء كان خيرًا أم شرًّا، من دون أن يكون لهم أيُّ اختيار. وقد استدلّوا على ذلك بقوله تعالى: >وَالله ُخَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ< (1).
ولعلّ أخطر ما نتج عن فكرة الجبر، هو الخضوع للحاكم الظالم ؛ لأنّه مُجْبَرٌ على ظلمه، بل هو بالحقيقة ظُلْمُ الله تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا ، كما أنّهم مجبورون أيضا على الخضوع . وهكذا تبنّجت حفيظة النّاس ، فاثّاقلوا عن الثّورة ضدّ البغاة ، الذين ما انفكّوا يغذّون كلَّ حديث مدسوس يعزِّز الجبريّة ، ويثبّت دعائمها .
الثاني: المُفَوِّضَة: وهم الذّاهبون إلى أنّه تعالى قد فوّض الأفعال إلى المخلوقين ، بعدما رفع قدرته وقضاءه عنها . واستدّلوا على مذهبهم بقوله تعالى: >إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوْرًا< (2).
الثالث: الأمر بين أمرين: هذه هي عقيدة الإماميّة المستمَدَّة من قول الصّادق عليه السّلام : " لا جَبْرَ ولا تَفْوِيضَ ولكن أمرٌ بين أمرين " (3).
والأمر بين أمرين يعني : إنّ أفعال الإنسان لا تنفكّ عن قدرة الله وقضائه ، إلا أنّه له حَيِّزٌ من الإختيار ، وهامش من الإرادة تجعله مُسْتَحِقًّا للثّواب فيما صدر عنه ، وأمَرَ به الله ، ومُسْتَحِقًّا للعقاب فيما صدر عنه أيضا ، ونهى عنه الله .
والدّليل على مذهبنا من أربعة وجوه : أوّلا: إنّ العقل والوجدان يحكمان باختياريّة الإنسان بين نزوله عن السطح على الدَّرَج ، أو بالمصعد ؛ فلو لم تكن الأفعال منّا ، لكانت على وتيرة واحدة ، والواقع خلافه ، فتكون منّا .
ثانيا: - لو لم يكن العبدُ موجِدًا لأفعاله (المُقَدَّم) ، لامتنع تكليفه (التالي) . - ولكنّه مكلّف بالإجماع ← فالتالي باطل ← فالمقدّم مثله . » إذن العبد موجِدٌ لأفعاله (النتيجة) .
- ولو لم يكن مُكَلَّفًا (المُقّدّم) ، لَمَا كان عاصيًا (4)(التالي) . - ولكنّه عاصٍ بالإجماع ← فالتالي باطل ← فالمقدّم مثله . » إذن العبد مكلّف (النتيجة) .
وبيان الملازمة بين المقدّم والتالي الأوّلَيْن : إنّ تكليف من لا قدرة له على إيجاد أفعاله قبيح ، لأنّه تكليف بما لا يطاق (5).
ثالثا: - لو كانت الأفعال كلُّها حتى القبيحة صادرة عنه تعالى (المقدّم) ، لاستحالت معاقبة العبد عليه (6)(التالي) . - ولكنّ الله يعاقبه اتِّفاقًا ← فالتالي باطل ← فالمقدّم مثله . » إذن لا تصدر كلّ الأفعال منه تعالى (النتيجة) .
رابعا: النّصوص القرآنيّة : » >فَوَيْلٌ للّذينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ...< (7). » >... إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ...< (8). » >... وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ...< (9). » >... كلُُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ< (10).
كلّ هذه الآيات تضيف الفعل إلى العبد ؛ فهو الكاتب للكتب ومُحَرِّفها ، والمُتَّبِع للظنّ ، وعامل السّوء ، والكاسب لأفعاله . كما يمكن زيادة العديد من آيات الوعد والوعيد ، والمدح والذّمّ .
_____________________
(1) سورة الصّافّات الآية : 96 .
(2) سورة الإنسان الآية : 3 . (3) الكافي ج 1 : 210 / ط . دار التّعارف . (4) لِبَدَاهة أنَّ العصيان على شيء فرع التكليف به . (5) ﴿لا يُكَلِّفُ الله ُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ...﴾ سورة البقرة الآية : 286 .
(6) لأنّه لم يفعله ، وإلا لو عاقبه لكان ظالما حاشا لذاته المقدّسة . (7) سورة البقرة الآية : 79 . (8) سورة الأنعام الآية : 116 . (9) سورة النّساء الآية : 123. (10) سورة الطّور الآية : 21 .
|