الاختلاط:
إنّ اختلاط الرجال بالنساء كان وما يزال أمرا اجتماعيا قهريا، إن لم يكن لدى جميع الناس، فلدى سوادهم الأعظم. ومن هنا كانت حلية الاختلاط لإقامة التوازن الحياتي حكمَ الإسلامِ دينِ الفطرة، والسيرة الممضاة من الشارع أكبر دليل على ذلك.
وبالتالي لا ينبغي لعاقل أن يختلف معنا على ضرورة الاختلاط لتحصيل الدراسات الأكاديمية مثلا، ابتداء من المدرسة إلى أعلى المراتب الدراسية؛ حيث يندرج كل ذلك تحت الضرورات الاجتماعية التي يجب وجوبا كفائيا على النساء أن يحصّلوها لسد الحاجات الضرورية للمجتمع الإنساني.
فالطبيبة، والممرِّضة، والمعلِّمة... مِهَنٌ تستدعي الاختلاط في الدراسة والعمل أيضا. لذا نرى من البديهي الحكم بحلية الاختلاط في هذه الموارد وأمثالها، بل وجوبه مقدمة لتحصيل الواجب الكفائي في سبيل نيل هذه العلوم، وممارسة هذه الأعمال.
هذا بالنسبة للاختلاط الطبيعي والضروري. أما الاختلاط الاختياري، كالجلسات والسهرات... فلم يدَّعِ أحد من الفقهاء حرمته، بل حليته من المسلمات الشرعية. وإنما حكم الكراهة لما قد يلزم من الاختلاط من نظرة، أو كلمة، أو مزحة، تثير ما تثيره في النفس، على قاعدة سنها الحكيم سبحانه: >فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ<(1).إلا إن حصل اطمئنان جماعي لعدم لزوم المكروهات أو المحرمات، كما هو الغالب في اختلاط الأصهار والأقارب المباشرين من الجنسين، فالحكم بعدم الكراهة راجح. ومن هنا لم يكره اختلاط الأخوات بأخوانهم، ولا البنات بأخوالهم وأعمامهم...
هذا مع عدم الاطمئنان بوقوع مثل هذه الأمور، وإلا فالقول بالحرمة لا محيص عنه قطعًا لمادة الفساد، وسدًّا لطريق الفاحشة، كما مر في مبحث المحادثة.
وفي هذا الصدد أورد موثقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أهل العراق، نبِّئت أن نساءكم يدافعن الرجال في الطريق، أما تستحون؟!"(2).
هذه الرواية تدل على ما ذكرناه من أن الإشكال ليس في أصل الاختلاط، وإنما فيما قد يلزمه من المكروهات، أو المحرمات. فالتدافع من لوازم الاختلاط في الطريق الضيق والسوق، بينما المفاكهة من لوازم السهرات، والنظرات من لوازم الجلسات والمحادثات الطويلة، وهكذا.
كما أستشعر في هذه الرواية دعوة علوية إلى الحد من مظاهر الاختلاط الفاحش، بتوسعة الطرق، وتباعد المباني، وإقامة الأسواق الكبيرة... فلا يخفى على ذي لب كيف تشكل هذه الأمور عوامل محفزة على ارتكاب المحظورات، وأرضا خصبة لبذر الشهوات، وحصد المحرمات.
الاختلاء:
الاختلاء لغة هو الانفراد(3)، فالاختلاء بامرأة، يعني الانفراد بها، سواء في مكان مغلق أم لا، واسعا كان أم لا، فمِلاك الاختلاء أن يجلسا في مكان ولو في قاعة عظيمة، أو صحراء شاسعة؛ بحيث لا يُحتمل دخول أحد عليهما أو رؤيتهما، والاحتمال الضئيل جدا بقطع الخلوة بمنزلة عدم الاحتمال.
والحق أن حكم الاختلاط والاختلاء من سراج واحد، إلا أنه لما كانت لوازم الاختلاء أشد خطورة، وآكد تأثيرا، كان استجلابها للكراهة أسرع، وللحرمة أهرع.
ومما يدل على ذلك خبر دعائم الإسلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يخلون رجل بامرأة، فما من رجل خلا بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"(4).
وخبر مسمع أبي سيّار، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: "فيما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعة على النساء، أن لا يحتبين، ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء"(5).
وخبر موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم"(6).
كل هذه الأحاديث تصب في بوتقة واحدة، وهو أنه لا يجوز الاختلاء بالأجنبية مع خوف الوقوع في الحرام ولو بالانجرار إليه شيئا فشيئا.
|