هل الله جِسْمٌ (1)؟
← الدليل على عدم جسمانيّته من وجهين : » أوّلا : إنّ كلّ جسم مفتقر إلى مكان يحلّ فيه ، وقد تقدّم أنّ المفتقر لغيره ممكن ، فلا يكون الله كذلك (2). » ثانيا : إنّ الجسم مركّب من أجزاء يفتقر إليها لتَحَقُّقِه ؛ كافتقار الماء للأوكسجين والهيدروجين ، والافتقار إمكان كما تقدّم . ونُرْدِفُ على ما قلنا قوله تعالى : >... ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّميعُ البَصِيرُ< (3)؛ فالآية المباركة نَفَت مطلق المِثلِيَّة على الله تعالى ، سواء كان المِثل جسما أم لا .
← ولقائل أن يقول : ما هو إذن تفسير الآيات المُجَسِّمة لله تعالى أو الموحية بتجسيمه نظير :
1- >وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ الله ِمَغْلُولَةٌ (4) غُلَّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ...<(5)، فإنّ هذه الآية قد صرَّحت بأنّ الله يمتلك يَدَيْنِ مبسوطتينِ ، ومَن له يَدَان لا محالة جُسْمان؟ الجواب : التعبير باليد المغلولة على لسان اليهود ، وباليد المبسوطة في جوابه تعالى كناية (6) عن البخل في الأوّل ، وعن الكرم والسَّخاء في الثاني ، وهو كثير في اللغة العربية ، حيث إنَّ الكناية من ضروب علم البيان الذي يُتَوَصَّل به إلى التخلُّص من التعقيد المعنوي للعبارة ، فينبغي تأويل هذه المعاني وحملُها على ما يناسب ما قطعنا به في استدلالنا العقليّ بعدم جسمانيّة الباري تعالى .
2- >وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا< (7) : وهنا أيضا قد يُقال : إنّ الله يَجيءُ مع الملائكة صفّا صفّا إلى مَحْضَرِ الخلائق ، ومجيئُه يعني تحرُّكُه من مكان لآخر ، والتَّحرُّك والانتقال من مزايا الأجسام التي تنتقل من مكان فتخلو منه ، وتَحِلُّ في مكان فَتَتَحيَّزُ فيه (8) . الجواب : المقصود من الآية المباركة بقوله تعالى : >وجاء ربّك ...< ؛ أي جاء أمْرُ ربّك وحُكْمُه .
وهكذا ، فإنَّ جميع الآيات والروايات التي استَعْمَلَت الألفاظَ الموهِمَةَ التجسيمَ للباري تعالى ، لا يَسَعُنا إلا أن نحملها على مثل ما أوَّلناه في الآيات الآنفة ، لنُوَفِّق بين ما توصَّلنا إليه بالأدلة العقليّة القطعيّة ومعاني هذه الآيات والروايات .
3- >ثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدْنَى﴾ (9) : جاء في دعاء النُدْبَة عن المعصوم (عليه السلام) ما يُوَضِّح ذلك فقال : " فكان قاب قوسين أو أدنى دُنُوًّا واقترابا من العليّ الأعلى " . والدنوّ قُرْبٌ ، والتدلّي نزول ، والقاب مقدار الشيء ، فيكون الرسول (صلة الله عليه وآله وسلم) في حادثة الإسراء والمعراج قد اقترب من ربِّه هذا المقدار اليسير ، فأيُّ شيء يعني هذا القرب المكانيّ سوى المحدوديّة للواجب تعالى وبالتالي جسمانيّته ؟ ننقل ما جاء في تفسير هذه الآية في الميزان : جاء في تفسير القميّ بإسناده عن اسماعيل الجعفي قال : كنت في المسجد الحرام قاعدا وأبو جعفر عليه السلام في ناحية ، فرفع رأسه فنظر إلى السّماء مرّة وإلى الكعبة مرّة ثم قال : >سُبْحَانَ الذي أسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً من المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى< وكرَّر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إليّ فقال : أيُّ شيء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقيّ ؟ قلت : يقولون : أسرى به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس . فقال : ليس هو كما يقولون ولكنّه أسرى به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السّماء وقال : ما بينهما حَرَم . قال : فلمّا انتهى به إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى (10) تخلَّف عنه جبرائيل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرائيل أفي مثل هذا الموضع تخذلني ؟ فقال : تقدَّم أمامك فو الله لقد بَلَغْتَ مَبْلَغًا لم يبلغه خَلْقٌ من خَلْقِ الله قبلك . فرأيت ربّي وحال بيني وبينه السّبحة قلت : وما السّبحة جعلت فداك ؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض وأومأ بيده إلى السّماء وهو يقول : جَلالُ ربّي جَلال ربّي ، ثلاث مرات . قال : يا محمد ، قلت : لبّيك يا ربّ قال : فيمَ اختصم الملأ الأعلى (11)؟ قلت : سبحانك لا علم لي إلا ما علّمتني . قال : فوضع يده بين ثَدْيَيْ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بين كَتِفَيْ . قال : فلم يسألني عمَّ مضى ولا عمَّ بقي إلا عَلِمْتُه.
أقول: قوله عليه السلام : ( ولكنّه أسرِيَ به من هذه إلى هذه ) أي من الكعبة إلى البيت المعمــور (12)، وليس المراد به نفي الإسراء إلى بيت المقدس ، ولا تفسير المسجد الأقصى في الآية بالبيت المعمور ، بل المراد نفي أن ينتهي الإسراء إلى بيت المقدس ولا يتجاوزه ، فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس .
وقوله : صلى الله عليه وآله وسلم : ( فرأيت ربّي ) ؛ أي شاهدته بعين قلبي كما تقدّم في بعض الروايات السابقة ، ويؤيّده تفسير الرؤية بذلك في روايات أخرى . وقوله : ( وحالت بيني وبينه السّبحة ) ؛ أي بلغت من القرب والزُلْفَى مَبْلَغًا لم يبقَ بيني وبينه إلا جَلالُه . وقوله : فوضع يده بين ثَدْيَيْ ( الخ ) كناية عن الرحمة الالهية ، ومُحَصَّلُهُ نزول العِلم من لَدُنْهُ تعالى على قلبه بحيث يُزِيلُ كلَّ رَيْبٍ وَشَكٍّ " (13).
وبهذا البيان للسيد الطباطبائيّ انتفت الجسمانيّة .
_____________________
(1) الجسم : " هو المُتَحَيِّز - الحالّ في مكان - الذي يَقبل القِسْمَةَ في الجهات الثلاث . (2) أي جسمًا . (3) سورة الشورى الآية : 11. (4) مغلولة : أي ممسِكة عن العطاء . (5) سورة المائدة الآية : 64 . (6) الكناية : " لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى " ؛ كما تقول : (يده بيضاء) ؛ كناية عن النزاهة . (7) سورة الفجر الآية : 22 .
(8) تتحيّز أي تأخذ بُعْدا مكانيا . (9) سورة النجم الآية 8 - 9 . (10) السِّدْرَة : " منتهى المقامات وصعود الملائكة ، فيها شجرة ذات ألف ألف غصن ، وفي كلّ غصن ألف ألف ورقة ، ولو أنّ ورقة منها سقطت إلى العالم لأظلّته ، ولو أنّ شخصا سار ألف عام تحت غصن واحد لما بلغ نهايته ، وكلّ سواقي وأنهار الحليب والعسل والماء وشراب الجنّة تمرّ من تحتها " . ووجه تسميتها بذلك من " سَدِرَ " أي تحيّر واندهش ؛ فكلّ من يراها يصاب بالدهشة ، وأمّا " المنتهى " : فلأنّها كما مرّ منتهى ارتقاء الملائكة ، بل كلّ ممكنات الوجود ، فقط الرسول محمّد (ص) مكّنه الله تعالى من عبورها . (عقائد ومفاهيم) للسيّد دستغيب . صفحة 101-102 / ط . دار البلاغة .
(11) الملأ الأعلى : " هو عالم لا يعتني مَن فيه ولا يلتفت إلاإلى الله سبحانه وتعالى " . ( عقائد ومفاهيم ) صفحة 102 .
(12) البيت المعمور : " مسجد في السّماء السّابعة مشاد من الزبرجد الأخضر ، وسقفه من الياقوت ، تطوف حوله الملائكة ، وهو مُحَاذٍٍ للكعبة بحيث لو سقط حجر منه بشكل مستقيم لسقط فوق سطح الكعبة " . (عقائد ومفاهيم) صفحة 73 .
(13) تفسير الميزان ج13 : 20-21 / ط . مؤسّسة النشر الإسلاميّ (جماعة المدرّسين) .
|