هل الله يُرى؟
← يستحيل على الله الرؤية البصريّة ، لأنّ كلّ مرئيّ ، فهو إمّا مقابل للرَّائي أو في حُكْم ِالمقابِل ، كالصورة في المرآة (1). وكلّ مقابِل أو في حُكْمِه فهو في جهة ؛ أي يَقبَل الإشارةَ الحِسِيَّة ، فلو كان الواجب مَرئيّا لكـان في جهة يشار إليها ، والإشارة الحقيقية لا تتوجّه إلا لجسم ماديّ ، والجسم الماديّ -كما تقدّم- ممكن ، والواجب لا يكون ممكنا ، إذن فهو لا يُرى .
ونُرْدِفُ على ما قلنا قوله تعالى : ﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ (2)، وقوله (عَزَّ من قائل) مُسْتَعْظِمًا طلب رؤيته مُرَتِّبا الذّمَّ والوعيد : ﴿ فَقَد سَألوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا الله َجَهْرَةً (3)* فَأخَذَتهمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم ﴾ (4)؛ فلو كانت رؤيته معقولة لما وُصِفَ طلبهم بالكبير ، ولما أنزل عليهم الصاعقة عقابا .
← ولقائل أن يقول : ماذا عن قوله تعالى : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى ربِّها ناظِرَةٌ ﴾ (5) : ناضِرة بالضاد من النُّضرة وهي الحُسن والجمال . وناظرة بالظاء من النظر وهو الرؤية بالبصر أو البصيرة . والنظر كما مرَّ معنا يستدعي الجِهَوِيَّة وبالتالي الجسمانيّة ، فكيف نوفِّق بين هذه الآية وما وصلنا إليه ؟
الجواب : إنّ النظر هنا يمكن حَمْلُه دون مُؤنَة على الرؤية البصيريّة -أي القلبيّة- التي تحدث في الدنيا قبل الآخرة لمن استحضر عظمة الله وجبروته في نفسه وروحه .وهذا ما أبرزه أمير الموحدين عليٌّ (ع) " وقد سأله ذُعْلِبُ اليمانيّ ، فقال : هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أفأعْبُدُ ما لا أرى ؟ فقال : وكيف تراه ؟ فقال : لا تراه العيون بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ (6)، ولكن تُدْرِكُهُ القلوبُ بِحَقَائِقِ الايمان " (7).
كما يمكن تفسير النظر بمعنى الانتظار ، فتكون النّفس منتظرة ومترقِّبة لنعمة الله وكرامته .
واعلم أنّ الذي يخطر في أذهان الخلق من تخيّلات يصنعونها ، وصور ينسجونها حول هيئة الباري تعالى ، هذه التوهّمات إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على قصور العقول ، وعجز الأفهام عن كنه معرفة واجب الوجود تقدّست أسماؤه ، وعَظُمَت آلاؤه ؛ " وفي كلام الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال : " كلّما مَيّزتموه بأوهامكم في أدقِّ معانيه مخلوقٌ مصنوعٌ مثلُكم مردودٌ إليكم ، ولعلَّ النَمْلَ الصِّغَارَ تَتَوَهَّمُ أنَّ للهِ تعالى زبانِيَتَينِ ؛ فإنَّ ذلك كَمَالهُا وتتوهَّم أنَّ عَدَمَهُما نُقْصَانٌ لِمَن لا يَتَّصِفُ بهما ، وهذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به . انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه " (8).
_____________________
(1) فأنت عند رؤيتك لزيد في المرآة ، أنت عمليّا لم ترَ زيدا مقابلا لك ، وإنّما بحكم المقابل ، وإنّما الذي قابلك هي صورة زيد ، وليس زيدا عينَه .
(2) سورة الأنعام الآية : 103.
(3) جَهَرَ الرَّجلَ : رآه معاينة بلا حجاب . (4) سورة النساء الآية : 153. (5) سورة القيامة الآية : 22-23 . (6) أي بالمشاهدة العينيّة . (7) نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده ج2 : 99 / ط . مؤسسة الأعلمي . (8) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 66 : 292-293 / ط . مؤسّسة الوفاء .
|