لا إشكال في جواز أصل محادثة الرجال مع النساء، سواء وجها لوجه، أم على الهاتف، أم على الانترنت، وسواء كانت المرأة متزوجة أم لا، وسواء كانت المحادثة بالكتابة، أم بالصوت، أم بالصوت والصورة مع مراعاة أحكام النظر. إنما الكلام فيما يصح التحدث فيه.
فنقول: أما الحديث الترحيبي، المتضمن للسلام، والسؤال عن الحال، فلا إشكال فيه؛ لانضوائه تحت حكم التحية الآنف الذكر.
أما ما فوق ذلك، فإن الأخذ والرد بين الرجل والمرأة الأجنبيين لا حرمة فيه أيضا، كالحديث الذي يدور بين الموظفين، أو زملاء الدراسة، أو الكلام في المباحث الدينية، أو الاجتماعية، أو الخوض في المشاكل الاقتصادية. والسيرة الممضاة من الشارع شاهدة على ذلك، ودالة على جوازه.
وإنما يحرم من الكلام ما تضمن مفاكهة، كما جاء في خبر ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من فاكه امرأة لا يملكها حبسه الله بكل كلمة كلَّمها في الدنيا ألف عام"(1).
وصحيحة أبي بصير، قال: "كنت أقرِئ امرأة كنت أعلِّمها القرآن فمازحتها بشيء، فقدمت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال لي: أي شيء قلتَ للمرأة؟ فغطيت وجهي، فقال: لا تعودن إليها"(2).
وكذا يحرم من الكلام ما تضمن ما يثير العواطف والغرائز؛ كالكلام في الحب وأحواله، كالحديث عن الاشتياق، أو الخوض في القضايا الجنسية، وتبادل القصائد الغزلية...
وإنما يحرم ذلك كله من باب قطع مادة الفساد والفتنة المتولّدَين من الخوض في هذه القضايا وأمثالها. فإن كل النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة الدالة على تحريم الفاحشة، والدالة على سد الطريق الموصل إليها، هي أدلة على تحريم هذا النوع من الأحاديث؛ لأنه مصيدة شيطانية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "حديث النساء من مصائد الشيطان"(3). ولأنه وطريق إلى الفاحشة، وسبب لانتشارها وشيوعها في المجتمع. قال تعالى: > إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ<(4).
وقال تعالى: >قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ<(5). فإن حفظ الفرج لا يعني تحصين الفرج من الإيلاج المحرَّم فحسب، وإنما يتعدى ذلك ليشمل كل فعل أو قول يلزم منه الوصول إلى المحرمات الجنسية المرتبطة بالجسد؛ فإن مقدمات الحرام حرام عقلا.
ومن الأدلة قول النبي (صلى الله عليه وآله سلم): "واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(6).
وكذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(7).
ووجه الدلالة أنه حذّرنا من فتنة النساء. ولا شك أن الخوض معهن فيما يثير العواطف والغرائز يعتبر من فتنتهن.
فلا يستخفنَّ أحد بالكلام، وما يجنيه اللسان، قائلا: "إنه مجرد كلام"! فلو لم يكن في الكلام ما فيه من تأثير وإلهام، لما كان يأخذ النبي في بيعة النساء أن لا يحدثْن من الرجال إلا ذا محرم، كما في خبر دعائم الإسلام(8).
ولما ورد النهي عن أكثر من كلمات خمس تقولها المرأة، إشارة إلى خطره؛ كما في خبر الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "نهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لابد لها منه"(9).
هذا النهي وإن حُمِل على الكراهة بعنوانه الأولي، إلا إنه إعلان واضح وصريح عن خطورة التمادي في حديث لا ضرورة فيه، فإن الكلمات الخمس كناية عن أقل مقدار تحتاجه المرأة في مقام قضاء وطرها، فالاستعمال العددي لم يقصد منه النهي عن الكلمة السادسة، وإنما النهي عن كل كلمة في غير محلها عُرفا.
|