إثبات التوحيد:
بعد إثباتنا لوجود واجب الوجود تعالى، وبعض ما يتَّصف به من صفات ثبوتيّة وسلبيّة ، نشرع في إثبات أوّل أصل من أصول الدين والمذهب ، وهو التوحيد، فنقول:
← لو كان في الوجود واجبَا وجود لزم إمكانهما؛ أي فقرهما، وبيان ذلك: مع هذا الفرض (1)، يكونان مشترِكَين في وجوب الوجود، فلا يخلو حينئذ إمّا أن يتميّزا بجهة من الجهات أو لا . » فإن لم يتميّزا لم تحصل الاثنينيّة ؛ لأنّ كلّ شيئين مشترِكَين من كلّ الجهات هما بالحقيقة شيء واحد ، والاتّحاد ينفي الاثنينيّة . » وإن تميّزا لزم تركيب كلّ منهما ممّا به المشاركة -وهوالوجوب- ، وممّا به الممايزة -أيّا تكن جهة الممايزة- ، وكلّ مركّب كما تقدّم ممكن ، فيكونان ممكنين ، وهو خلاف الفرض بأنّهما واجبان ، ولكنّا أثبتنا وجودَ واجبٍ واحدٍ فنلتزم به نافِين الشريك عنه .
◄ وقد جاء في كتاب الله العزيز : >لو كانَ فيهما آلهةٌ إلا الله ُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ< (2)؛ وقد فسَّر الشيخ محمد جواد مغنية (رَحِمَه الله) هذه الآية بقوله : " أي لو كان في السّماء والأرض آلهةٌ سوى الله لما استقامتا ، ولفسد من فيهما (3) وما فيهما (4)، ولم ينتظم أمرٌ من الأمور . ذلك أنّه لو وُجِدَ إلهان لكان كلٌّ منهما قادرا (5)، ومن شأن القادر أن يكون مُرِيدا ضِدّ ما يريده الآخر ، وعليه فإذا أرادَ أحدُهما خَلْقَ شيء ، وأراد الآخر خِلافُه ، فإمّا أن يحصل مرادُهما معا ، فيلزم اجتماعُ الوجود والعدم ، وهو محال ، وإمّا أن يحصل مرادُ أحدهما دون الآخر ، فيكون هذا الآخرُ عاجِزا ومغلوبا على أمره ... وبديهة أنّ العاجز لا يكون إلها " (6).
◄ وفي سورة المؤمنون قوله (عزَّ من قائل) : >ما اتَّخَذَ الله ُ من ولَدٍَ وما كان مَعَهُ من إلهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِماخَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله ِ عَمَّا يَصِفُونَ< (7)؛ يبيِّن الله تعالى في هذه الآية المباركة حقيقة بديهية لا جِدال فيها مَفَادُها : لو كان في الكون إلهان لاختصَّ كلُّ إله بمُِلكه الخاصّ ، ولأقام له قوانينه الخاصّة ، والواقع أنّ هذا الكونَ واضح في كون خصائصه وقوانينه واحدة لِمن سَبَرَ علومَه وبَقَرَ مكنونَه ؛ فإنّك ترى مثلا الأشياء كلَّها لها زوجان اثنان ؛ ذكر وأنثى ، سلبيّ وإيجابي ، من البشر إلى الجنّ إلى النبات والحيوان حتى المعادن والذرّات ، وهذا من أسرار وِحدة نظام الوجود التي توصَّل إليها العلم الحديث وأكَّدها القرآن الكريم (8) .
أيضا صفة الألوهيّة تستدعي الهيمنة والسيطرة (9)، فكيف يحصل هذا مع تعدّد الآلهة ، فإنّ ذلك يستلزم علوَّ بعضِهم على بعض كما بيَّنت الآية . ومن الأمثلة الشائعة : " حِصانان لا يُربطان على مَعْلَفٍ (10) واحد " .
ولقائل أن يقول : لماذا تفترضون أنّ الإلهين متسلِّطان على عالَم واحد حيث يحصل العِراك بينهما وبالتالي علوّ بعضهم على بعض مِمَّا يوجب فساد العالم ؟ فلِمَ لا نفترض أن يكون لكلٍّ منهما عالمُه الخاصّ ؛ فلا يتدخَّل هذا بذاك ، فيَعُمُّ السَّلام بينهما ؟ الجواب : إنَّ هذا الإفتراض يُحَتِّمُ مَحْدُودِيَّة كِلا الإلهين ؛ فوجود أحدهما في عالم دون الثاني يعني محدوديّته في عالمه الخاصّ وبالتالي تَحَيُّزه فيه ، والمتحيِّز جسم ، والجسم مركّب ، والمركّب فقير لاحتياجه أجزاءَه ، والواجب تعالى لا يكون محتاجا .
وقد يَتَبَحَّر أحدُهم بمخَيِّلته وأوهامه فيقول : دعنا نفرض أنّ لكلِّ إلهٍ عالمه الخاصّ الذي يحكمه ، ولكنّ وجودهما متداخلٌ تَدَاخُلَ الماء بالماء ، ألا نخرج حينها من إشكال المحدوديّة وبالتالي الجسمانيّة إذ يكون كلاهما في كلِّ مكان على نحو الوجود اللامحدود ؟ الجواب : إنّنا ولو كنَّا متساهلين في تَلَقِّي هكذا تخيُّلات إذ إنّها واضحة في تجسيم الواجب تعالى حيث إنّ التداخل بالأشياء وغيرها من سِمَات الجسمانيّات ، ولكنّنا نردّ على تصوّر التداخل بما جاء في بداية هذا الفصل ، فنقول : إنَّ هذا التداخل إن كان اتِّحادا فقد انتفت الإثنينيّة ، وإلا فهي الجسمانيّة .
◄ ورُوِيَ أنّ أمير المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب (عليه السلام) قال لولده الحسن (عليه السلام): " واعلم يا بنيّ أنّه لو كان لربِّك شريكٌ لأتَتْكَ رُسُلُه ، ورأيت آثارَ مُلكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسَه، لا يُضَادُّهُ (11) في ملكه أحد، ولا يزول أبدا (12)" .
_____________________
(1) وهو وجود واجبَي وجود . (2) سورة الأنبياء الآية : 22 . (3) من العُقلاء . (4) من غير العقلاء . (5) وإلا لو كان أحدُهما غير قادر فلا يصلح للألوهيّة ، لعجزه من جهة ، وعدم الفائدة منه من جهة ثانية . (6) تفسير الكاشف ج 2 : 345 / ط . دار العلم للملايين . (7) سورة المؤمنون الآية : 91 . (8) >ومِن كُلِّ شيءٍ خَلَقْنَا زَوْجَينِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ< سورة الذاريات الآية : 49 . (9) لأنّ عدمهما يعني العجز ، وهو منافٍ للألوهيّة . (10) مَِعلف بفتح العين وكسرها موضِع العَلَف وهو طعام الدّوابّ . (11) يضادّه : يخالفه ويعاكسه . (12) نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده ج3 : 44 / ط . مؤسسة الأعلمي .
|