﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 إثبات وجود الله تعالى 

القسم : وجوب معرفة الله وإثبات وجوده   ||   التاريخ : 2011 / 03 / 05   ||   القرّاء : 17791

إثبات وجود الله تعالى:

     أوّلا: تنقسم المعقولات، وهي الصُّوَرُ الحاصِلة في الذِّهن إلى ثلاثة أقسام:

     - واجبُ الوجودِ لِذَاتِهِ: وهو الموجودُ الذي يجب اتِّصَافُهُ بالوجود لذاته (1)؛ أي أنّ اتِّصافَه بالوجود لا يعتمد على الغير.

     - ممكِنُ الوجودِ لذَاتِهِ: وهو الموجودُ الذي يصحُّ اتِّصَافُهُ بالوجود لذاته (2) ولا يجب ؛ فإن وُجِدَ يعني أنّ علّة أعطته الوجود (3)، وإن عُدِمَ يعني أنَّ علّةً لم تُعْطِه الوجود (4)؛ فهو بنفسه لا موجود ولا معدوم ؛ أي فقير لا يملك بذاته إعطاءَ الوجود لذاته ولا نَفْيَهُ عنه. من قَبِيلِ الإنسان الذي قد يوجد أو لا، وهذا معنى تَسَاوي النسبةِ بين الوجود والعدم.

     - ممتنع الوجود لذاته: وهو الموجود الذي لا يصحّ اتصافه بالوجود لذاته. من قبيل اجتماع الضدّين ؛ إذ لا إمكانيّة لاجتماع البرودة والحرارة في شيء واحد وفي زمن وجهة واحدة.وإن لم يحصل ذلك على يد أحد، فليس لعجْزه بل لاستحالة الأمر بنفسه.وهذا ما يعبّر عنه بعَجْزِ القابل لا الباعث.كما ورد أنّ إبليسَ قال للنبيّ عيسى (عليه السلام):" يا عيسى هل يقدر ربّك أن يُدْخِلَ الأرضَ في بيضة والبيضةُ كهيئتها؟ فقال (عليه السلام): إنَّ الله تعالى لا يُوصَفُ بِعَجْزٍ، والذي قلتَ لايكون "(5)؛ يعني هو مستحيل بنفسه كما اجتماع الضِدَّين، فالعَجْزُ فيه لا في قدرة الله تعالى (6).

       وهكذا اتَّضحت مصطلحات الواجب بالذات، والممكن بالذات، والممتنع بالذات، أمَّا الواجب بالغير والممتنع بالغير ؛ أي الذي وجوده وعدمه منوطٌ بالغير فهو الممكن بالذات نفسُه. ويبقى السُّؤال: هل هناك ممكن بالغير؟

     الجواب: لو فرضنا وجود الممكن بالغير فكيف يكون لذاته؟ لا يخلو إمّا واجبا لذاته، أو ممكنا، أو ممتنعا.

     1- إذا كان واجبا لذاته فلا يكون ممكنا أصلا ؛ لأنَّ الواجب تمتنع عنه العدميّة، والممكن يصحّ انعدامه.

     2- إذا كان ممكنا لذاته، فلا يكون ممكنا لغيره ؛ لأنّه بذاته كذلك (7) فلا يحتاج لغيره.

     3- إذا كان ممتنعا لذاته، فلا يكون موجودا أصلا، فكيف يكون ممكنا سواء لغيره -على فرض صحَّته- أم لذاته.

       وهكذا تبيَّنت استحالة وجود الممكن بالغير، ولكن لقائل أن يقول: أليست عِلَّة الممكن (8) هي من أعطته الوجود، وبالتالي هو ممكن بالغير ؛ أي ممكن بعلَّتِه؟

     الجواب: عندما نقول: الإنسان ممكن لذاته ؛ أي إنّ ذاته قابلة لتوجد بالغير وتنعدم به، نعم، وجود أو قُلْ إيجاد  ممكن الوجود هو الذي بالغير، ولكن ممكن الوجود بما هو هو ؛ أي بخصائصه وقابليّاته بقطع النّظر عن موجِدِه، هو ممكن بذاته ؛ أي سبب اتّصافه بالإمكان ذاتُه وليست العلَّة، وإنّما العلِّة هي من أوجدته، فيكون موجودا بالغير، لا ممكن الوجود بالغير، فتأمَّل.

 

     ثانيا: هل واجب الوجود موجود؟

      بداية نقدِّمُ بديهةً وهي أنّ الموجوداتِ إمّا أن تكونَ واجبةَ الوجودِ أو ممكنة، ولا تكون ممتنعةً لأنّ الممتنعَ غيرُ موجود.ثمّ إنّ الممكناتِ من قَبِيل الحيوان تحتاج إلى عِلّة تُوجِدُها بناء على قانون السبَبِيَّة (9)، لِنَفْرِضَ أنّ الحيوانَ هو المُمْكِنُ (أ) ، فإن كانت هذه العلّة هي الواجبُ فقد ثبتَ المطلوب (10)، وإن لم تكن كذلك (11) فهي ممكنةُ الوجودِ أيضًا. لِنَفْرِضَ هذه العلّة هي الممكن (ب). كذلك بالنسبة إلى الممكن (ب) ؛ فهو بحاجة إلى مُوجِد، فإن كان واجبا فقد ثبت المطلوب، وإلا فهو ممكن. لنفرض هذا الممكن هو (ج). وهكذا إن لم نصل إلى واجب مُسْتَغْنٍ عن عِلّة تُوجِدُه سوف تَتَسَلسَل الممكِناتُ إلى ما لا نهاية. ولكنّ التسلسلَ باطل، إذن لا بدَّ من مُوجِدٍ غيرِ ممكِنٍ ؛ أي غيرِ مُحتاج إلى علّة لإيجاده، وهو واجب الوجود لذاته.

 

     ثالثا: لماذا التسلسل باطل؟

      توصّلنا فيما سبق إلى صورة تَرَتُّبِ مَعلولاتٍ ممكنةٍ على عِلَلِها الممكنة، ولو أردنا استكمَالهَا لكانت على الشكل التالي: أ ← ب ← ج ← د ← هـ ← و  ←  ز ← ح← ط............................... سلسلةُ الممكناتِ هذه بحاجةٍ لِمُوجِد ؛ لأنهّا معلولةٌ ولكلِّ معلولٍ علّـةٌ أوْجَدَتْـهُ. وهذا الموجِدُ لا يخلو إمّا أن يكون من داخل السلسلة أو من خارجها (12). ولا يمكن أن يكونَ من داخلها لأنّه حينئذ يكون موجدًا لنفسه وهو مُحَال، فلَزِمَ كونُهُ من خارجها. إذن الموجِدُ هو واجبُ الوجود ؛ لما عَلِمْتَ أنّ الموجودَ إمّا ممكنٌ أو واجب، فإن ثبتَ أنّ الموجِدَ من خارج سِلسِلة الممكنات انحصَرَ الأمرُ في الواجبِ.

     وقد سَهَّلَ الشهيدُ مُطَهَّري (رَحِمَهُ الله) هذا الاستدلالَ بالفَرْضِ التالي:

     " لو فرضنا أنّ هناك فريقًا لسِبَاقِ الركض، قد وقف أعضاؤه جميعا على خَطِّ الانطلاق، متأهّبين للركض، ولكن كلّ واحد قد قرّر في نفسه أن لا يبدأ بالركض إلا إذا بدأ صاحبُه، فلو كان هذا القرارُ شاملا للجميع، فسوف لن يبدأ أيٌّ منهم بالركض، ولن يتحقَّقَ الركضُ إطلاقا. وكذلك إذا كان وجودُ كلِّ موجود مَشروطا بتحقُّق الموجود الآخر، فسوف لن يوجدَ أيُّ موجود (13). إذن فتحقّق وجود الموجودات الخارجيّة دليلٌ على وجود موجود خارجيّ غيرِ محتاجٍ وغيرِ مشروط " (14).

     إشكال:

     إنّ قانون السببيّة عقليٌّ، وبالتالي لا يقبل التخصيص، فكيف سرى على الممكنات ولم يسرِ على مُوجِدها الواجب؟

     الجواب: إنّ قانون السببيّة بداية عالَمُهُ المُمْكِنات المحتاجَة لعِلّة، أي الموجودات المُسَبَّبَة، والموجِد لسلسلة الممكنات ليس مُسَبَّبًا حتى يخضع للقانون. وإن ادُعِيَ أنّ في هذا الكلام مُصادَرَة على المطلوب، نجيب إنّ في المقام قطعين عقليين هما: قانون السببيّة، وبُطلان التسلسل ؛ ومن الواضح إنَّ إخضاع كلّ الموجودات -مِمَّا فيها الموجِد لسلسلة الممكنات- لقانون السببيّة يُناقِض بُطلان التسلسل، فكيف يَتُمُّ التوفيق بينهما إذا لم نُسَلِّم بأنّ قانون السببيّة لا يطال المُوجِد للسلسلة؟

     وهكذا انقشعت الحقيقة أمامنا بضرورة كون الموجِد لسلسلة الممكنات واجبا غير محتاج، يفيض بالوجود على من سواه، فالكلّ رَشْحةٌ من رَشَحَات وجوده، وذرَّةٌ من ذرَّات فيض جُوده. ولكن علينا أن نؤكِّد في نهاية هذا البحث، أنّ إثبات الصّانع تعـالى لا يحتاج إلى كثير من الاستدلالات العقليّة، حتى نستكشف من الممكنات وجود واجب الوجود، فكيف للفقير أن يدلّ على الغني، كما كيف للظلام أن يكشف النّور، فالقلب السليم لا يحتاج إلا لقليل من الصّفاء حتى يشعّ نور الواجب في روحه وقلبه، فيراه ولا يرى غيره.

     أمَّا الغارقون في عالَمِ المادَّة، المُسْتَدِلُّونَ بالكائناتِ على خَالِقِ الكائناتِ ومُظْهِرِهَا، فإنَّمَا يُعْزى ذلك إلى ضَعْفِ بَصِيرَتِهِم وظُلْمَةِ ألْبَابِهِم،  وهذا ما أشارَ إليه الحسينُ الشهيدُ عليه السلام في دعاء عَرَفَة حيث قال:

     "كيف يُسْتَدَلُّ عَليكَ بِمَا هو في وجوده مُفْتَقِرٌ إليك، أيَكُونُ لِغَيْرِكَ من الظّهور ما ليس لك، حتى يكون هو المُظْهِرُ لك؟ متى غِبْتَ حتى تحتاجَ إلى دليلٍ يدلُّ عليك، ومتى بَعِدْتَ حتى تكون الآثارُ هي التي تُوصِلُ إليك. عَمِيَت عَيْنٌ لا تَرَاكَ ولا تزالُ عليها رقيبًا، وخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لم تجعل له من حُبِّكَ نَصِيبًا. إلهي أمَرْتَ بالرّجوعِ إلى الآثار، فارجعني إليكَ بِكِسْوَةِ الأنوار، وهِدَايَةِ الاسْتِبْصَار، حتى أرجِعَ إليكَ منها كما دَخَلْتُ إليكَ منها ؛ مَصُونَ السِّرِّ عن النّظر إليها، ومرفوعَ الهِمَّةِ عن الاعتِمَاد عليها، إنّك على كلِّ شيءٍ قدير".

     نستخلص ممّا تقدّم:

     - تنقسم المعقولات إلى أقسام ثلاث:

     » واجب الوجود لذاته: وهو الموجود الذي يجب اتِّصافه بالوجود.

     » ممكن الوجود لذاته: وهو الموجود الذي يصحّ اتِّصافه بالوجود ولا  يجب.

     » ممتنع الوجود لذاته: وهو المعقول الذي لا يصحّ اتِّصافه بالوجود.

     - لا بدّ لسلسلةِ الممكناتِ من واجِدٍ غيرِ ممكنٍ وإلا تسلسل، والتسلسل باطل لِلُزُومِهِ عدمُ وجود الموجودات والواقع خِلافُه.

     - التسلسل باطل لأنّ الموجِدَ للسِّلسلة إمّا من داخلها أو من خارجها ؛ والأوّلُ مُحَالٌ للزومه إيجادُهُ لنفسه، فَيَثبُتُ الثاني، فيكون واجبا، لأنّ الموجود خارجَ سلسلة الممكنات واجب.

     - إنّ قانون السببيّة عَالَمُهُ الممكنات المعلولة، فلا يشمل الواجب المستغني عن العلَّة، ولا مُصادَرَة في الأمر لأنّه لا يمكن التوفيق بين القانون وبطلان التسلسل إلا إذا سلّمنا أنّ القانون لا يَطال المُوجِد للسلسلة.

 _____________________

(1)     أي أنّ ذاته تتحلى بخصائصَ تَـحُولُ دون انفِكَاكِ الوجودِ عنه.

(2)     أي لخصائصَ ذاتيةٍ فيه  لا تمنعُ وجودَه.

(3)     فإذا وُجِدَ البِنَاءُ يعني أنّ بانيا قد بناه ؛ فهو إذن واجب الوجود بالغير.

(4)     فإذا عُدِمَ البِناءُ يعني أنَ الباني لم يبنِه ؛ فهو إذن ممتنع الوجود بالغير.

(5)    بحار الأنوار ج 14: 271 / ط. مؤسّسة الوفاء.

(6)     ولكن ألا يُناقِض هذا أنّ الله على كلِّ شيء قدير؟ هذا ما سيتّضح في مبحث القدرة من الفصل الثاني.

(7)     أي ممكنا.

(8)     وهي الواجب كما سيتَّضح.

(9)     القائل: " إنّ لكلِّ سَبَبٍ مُسَبِّب ".

(10)  وهو وجود واجب الوجود.

(11)  أي إن لم تكن هذه العلّة واجبة الوجوب حيث لا تحتاج إلى مُوجِد.

(12)  فإن كان الموجِدُ للسِّلسلة من داخلها ؛ لِنَفْرِض هو (و)، لكان (و) موجِدًا نفسَه بنفسِه لِفَرضِنا أنّه أوجَدَ السّلسلةَ وهو منها، ويستحيل إيجادُ الشيءِ لنفسِه، فيتعيّن كونُ الموجِد للسّلسلة من خارجها، وكلّ موجود خارج سلسلة الممكنات هو واجب، إذن الموجِد لها هو الواجِب.

(13)  الاستدلال على النحو التالي: إذا صحَّ التسلسل لم يوجَد الوجود، ولكنّ الوجود موجود فالتسلسل باطل.

(14) دروس في العقيدة الإسلاميّة ج 1: 77 / ط. دار الحق.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 مسلسل العشق الممنوع

 ذو القعدة الحرام

 غاية الخلق

 للمرأة وتسريح شعر الرأس واللحية

 صلاة العاجز

 ذو المعارج النور

 الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام)

 بعد التحية والسلام

 خمس الهدية

 الحليم العظيم

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net