﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 عالم البرزخ 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 19302

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، وتواضعت الجبابرة لهيبته. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأئمة، أمناء الله ونجبائه، كاشفي الغمة، ومجلي الظلمة. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله الذي إليه مرجع العباد.

       بعد فراغنا من الكلام عن الموت، يأتي الكلام عن العالم الأوسط الفاصل بين عالم الدنيا وعالم  الآخرة، وهو عالم البرزخ أو الحشر الأصغر. قال تعالى: >مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)< الرحمن. أي بين الماء العذب والماء المالح حاجز يمنعهما من التخالط، وهذا الحاجز الفاصل يسمى (برزخ). وهكذا صار كل فاصل بين شيئين برزخا، فعالم ما بعد الموت إلى يوم القيامة برزخ أيضا، وهي مدة مفارقة الروح للبدن في الدنيا إلى وقت العود إليه في القيامة، تكون فيه الروح في بدن مثالي رقيق هوائي، الذي يرى الإنسان نفسه فيه في النوم، ليست فيه كثافة الماديات، ولا لطافة المجردات، وإنما هو بين بين.

       ونسبة هذا العالم إلى عالم الدنيا من حيث السعة كنسبة الرحم إلى الدنيا، فكما لا يستطيع الإنسان، وهو في الرحم، أن يتصور خصوصيات العالم الدنيوي الذي سينتقل إليه، كذلك لا نستطيع ونحن في عالم الدنيا أن نتصور خصوصيات عالم البرزخ الأوسع من عالم الدنيا، والأضيق من عالم الآخرة.

       أما الأدلة على هذا العالم، فقد أجمعت الأمّة عليه خلفا وسلفا، ولم ينكره أحد من المسلمين، والآيات والروايات متواترة بمضمونها. نذكر من الآيات قوله تعالى: قال تعالى: >حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ< المؤمنون. هاتان الآيتان واضحتا الدلالة في إثبات عالم برزخ وسطي يشكل محطة بين الدنيا والآخرة؛ أما أنه يلي الدنيا؛ فلأنه وراء، والموت آخر محطة في الدنيا. وأما أنه يسبق الآخرة، فلقوله تعالى: >وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ< والبعث في القيامة. وقوله تعالى: >قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ< غافر، 11. (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)، موت بنزع الروح في الدنيا، ثم إحياء في عالم البرزخ، ثم موت عند نفخ إسرافيل (عليه السلام) في الصور، ثم إحياء عند نفخته الثانية لإحياء الخلائق للبعث والنشور. وقوله تعالى: >النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ< غافر، 46. تتكلم الآية عن عرض على النار غدوا وعشيا في مرحلة تسبق يوم القيامة؛ لأن في القيامة لا يوجد صبح وعشاء من جهة، ولقوله فيما بعد: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون)، هذا العرض على النار ليس إلا في عالم البرزخ. وإذا ثبت العذاب في عالم القبر والبرزخ، وجب القول بثبوت الثواب أيضا؛ لأنه لما لم يسقط الحق سبحانه العذاب إلى القيامة، بل حققه في القبر، كان تحقيقه للثواب فيه أولى. وقوله تعالى: >وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)< آل عمران. نهى سبحانه عن اعتبار الذين يستشهدون في سبيل الله أمواتا، بل أخبر عن حياة غير حياتهم الدنيا يعيشونها، ويرزقون فيها. ولا يقصد بذلك يوم القيامة؛ لأن في القيامة يبعث الناس دفعة واحدة، فلا يستبشر أحدهم بقدوم الآخر، فالمقصود إذًا علم البرزخ الذي يلي الدنيا ويسبق الآخرة.

       أما الروايات، فهي كثيرة؛ منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران".

بعد إثبات حقانية هذا العالم، نأتي إلى مساءلة القبر، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك. قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم محباً، وإني كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم؟ فيقولون: نودّيك إلى حفرتك، فنواريك فيها، قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهداً، وإنكَ كنتَ عليّ لثقيلاً، فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك.

قال: فإن كان لله وليًّا، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا الى الجنة.

فإذا أُدخل قبره، أتاه ملكان يجرّان أشعارهما، ويخدّان -يشقان- الأرض بأقدامهما، وأصواتهما كالرعد الخاطف، فيقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيّك؟ فيقول: الله ربي، وديني الإسلام، ونبيي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقولان له: ثبتك الله فيما يحب ويرضى، ثم يفسحان له في قبره مد بصره، ثم يفتحان له بابا إلى الجنة، ثم يقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم.

قال: وإذا كان لربه عدوا، فإنه يأتيه أقبح من خلق الله زَيًّا، ورِيًّا –منظرا-، وأنتنه ريحا، فيقول: أبشر بنزل من حميم، وتصلية جحيم... فإذا أدخل قبره أتاه ممتحنَا القبر، فألقيا عنه أكفانه، ثم يقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري! فيقولان: لا دَرَيت، ور هُديت، فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة، فما خلق الله تعالى من دابة إلا  تذعر لها، ما خلا الثقلين، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال... حتى أن دماغه تخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الأرض وعقاربها وهوامها، فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره، وإنه ليتمنى قيام الساعة لما هو فيه من الشر".

هذا بالنسبة إلى مساءلة القبر، فماذا عن المؤمنين الذين رضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا، وبعلي وذريته المعصومين أئمة؟

       روي عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم، قال: صدقتك، كلهم والله في الجنة، قال: قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبائر، فقال: أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المطاع أو وصي النبي، ولكن والله أتخوف عليكم في البرزخ".

       نفهم من كلام الإمام أن عذاب البرزخ عملية تطهير للمؤمن حتى يلقى الله تعالى يوم القيامة، وقد انغسل من ذنوبه، ويدل عليه ما رواه عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن من أصحابنا من يرتكب الموبقة -الشر-، فقال (عليه السلام): لا تشنع على أولياء الله، إن من أوليائنا ليرتكب ذنوبا يستحق بها العذاب، فيبتليه الله في بدنه بالسقم حتى يمحّص –أي يُذهب- الذنوب، فإذا عافاه في بدنه ابتلاه في ماله، فإن عافاه في ماله ابتلاه في ولده، فإن عافاه من بوائق-أي شرور- الدهر شدّد عليه خروج نفسه حتى يلقى الله وهو عنه راض". وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ضغطة القبر للمؤمن كفارة لما كان منه من تضييع النعم".

       وكأن ضغطة القبر أمرٌ مسلَّم لا مفر منه، ولكن أما من أمور تفيدنا في هذا المكان المظلم فتخفف عنا حزنه وضيقه؟

       ورد عن سبل النجاة (عليهم السلام) أمورا يفعلها الإنسان بنفسه، وأخرى يفعلها غيره من أجله بعد وفاته.

       أما التي يفعلها الإنسان لنفسه؛ فمنها: المحافظة على أوقات الصلاة وحسن أدائها، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "من أتم ركوعه، لم تدخله وحشة القبر". وخصوصا صلاة الليل، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "صلاة الليل سراج لصاحبها في ظلمة القبر". ومنها اجتناب الغيبة، والنميمة، والتوقي من البول؛ فعن ابن عباس قال: "عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث للغيبة، وثلث للنميمة، وثلث للبول". أما الغيبة، فهي ذكر عيوب أخاك المؤمن المستورة. والنميمة نقل الكلام بين طرفين لغرض الإفساد. والمقصود بالبول، مراعاة أحكام الطهارة منه، والتستر عن الناظر المحترم. ومنها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم يُنتفع به، وصدقة جارية".

       أما التي يفعلها غيره له؛ فمنها: صلاة أربعين عليه، وشهادتهم أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا؛ فقد ورد عن الصادق (عليه السلام): "إذا مات المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلا من المؤمنين، فقالوا: اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرا وأنت أعلم به منا، قال الله تبارك وتعالى: قد أجزت شهادتكم، وغفرت له ما علمت مما لا تعلمون".

       ومنها وضع جريدتين -غضني النخل- في قبره، فإن لم يجدوا فمن السّدر ، وإلا فمن الصفصاف، وإلا فمن الرّمان، وإلا فمن كلّ عود رطب، ولا يكفي اليابس. ومنها تلقينه، ومنها أن يذكروه الناس بأعمال البر، فيتصدقون عنه، أو يصلون أو يحجون أو يزورون قبور الأئمة أو يتلون القرآن، ثم يهدون ثواب ذلك له، فقد ورد في الحديث أن الميت يكون في ضيق من العذاب، فيهدي إليه واحد من إخوانه شيئا من البر، فيدخل عليه ملك في قبره بطبق من نور، فيقول: هذه هدية لك من فلان إليك، فيوسع في قبره، ويرفع عنه العذاب.

       وأختم بقصة مؤمن أنزل قبره، فأتاه الملكان المقربان، وسألاه عن ربه، ونبيه، ودينه، وكتابه، وأئمته، فأجاب هذا المؤمن.ثم راحوا يحاسبونه على أعماله فكان فيها من التقصير الكثير، حتى أن هذا المؤمن أصابه الخوف والاضطراب لشدة ما رآه من دقة الحساب. ولما أنهوا قراءة ما كتب في صحيفة أعماله، وهموا بإنزال العذاب عليه بما يتلاءم مع معاصيه، وبينما هم كذلك، فإذا برجل حسن الوجه، طيب الريح، يأخذ منهم الصحيفة، ويوقع عليها: (غُفِرَ له)، فتعجب الشاب من هيبة هذا الرجل، وسطوته على الملكين، فسأله: من أنت؟ فقال: أتبكيني في الدنيا، وأتركك في الآخرة؟! السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله أبدا، ما بقيت وبقي الليل والنهار.

أسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعنكم وحشة أيام البرزخ، وأن يرزقنا شفاعة نبينا محمد وآله المعصومين، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الاحتضار

 مد التمكين

 الإمام محمّد بن عليّ الجواد (عليهما السلام)

 للسفر وأحواله

 رأس السنة الهجرية وعاشوراء اليهود

 زرع البويضة والحويمن

 رجب الحرام

 أحكام الراءات

 سفر الطلاب

 الشيكات

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net