﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 الوطن بين الوعي والاستغلال السياسي 

القسم : متفرقات ثقافية   ||   التاريخ : 2025 / 10 / 10   ||   القرّاء : 38

الوطن بين الوعي والاستغلال السياسي

(قراءة فلسفية تاريخية) 

مقدمة

منذ نشوء فكرة (الدولة الحديثة) ، تحوّل مفهوم الوطن إلى شعار يجمع الناس حول أرض وحدود ولغة وراية. غير أنّ هذا الشعار، الذي يفترض فيه النقاء العاطفي والولاء الجمعي، كثيرًا ما تسرّب إلى أيدي الساسة كأداة تعبئة وتحشيد، تُدار بها العواطف وتُخدم بها مصالح ضيقة. وبين الوعي الصادق بالانتماء، والاستغلال النفعي للمشاعر الوطنية، ظلّت الفكرة تتأرجح بين قداسةٍ وريبة، بين التضحية والحذر.

 

1️⃣ الجذر التاريخي لفكرة الوطن 

لم يكن (الوطن) بمعناه السياسي الحديث موجودًا في العصور القديمة كما نعرفه اليوم. فالرابطة كانت دينية أو قبلية أو عائلية أكثر منها جغرافية. ومع بزوغ الدولة القومية في أوروبا بعد صلح وستفاليا (1648)، نشأ تصور جديد: الأرض التي تضم شعبًا موحّدًا تحت سلطة وسيادة واحدة. هذا التحوّل جعل الوطن كيانًا متخيّلًا ــ بلغة بنديكت أندرسون ــ يقوم على سرديات جماعية تُبنى عبر التعليم والإعلام والرموز.

ومن هنا صار (حب الوطن) جزءًا من صناعة الهوية الحديثة، وغالبًا ما رافقه خطاب تعبوي يخدم مشروع الدولة المركزية.

 

2️⃣ بين الوطنية الصادقة والتعبئة المصطنعة

تميّز جورج أورويل بين الوطنية والقومية:

الوطنية شعورٌ دفاعيٌّ إيجابي نابع من تقدير الفرد للمكان الذي ينتمي إليه، ورغبته في حمايته من العدوان.

أما القومية فهي نزعةٌ استحواذية تسعى لتوسيع النفوذ والسيطرة باسم الوطن، وهي التي تُستغل عادة في صناعة العداء وتبرير الحروب.

من هذا المنظور، ليست الوطنية في ذاتها خدعة، ولكنها تتحوّل إلى أداة تضليل حين تُستخدم لتغطية الفشل أو لتجنيد الشعب في حروب لا تخصه.

لقد رأينا ذلك في دعايات الأنظمة الشمولية، من الفاشية الإيطالية إلى النازية الألمانية، حيث جرى تمجيد الوطن ليغدو صنمًا سياسيًا تُقدَّم له القرابين البشرية.

 

3️⃣ الدفاغ عن الوطن إذا العدو أقوى

سؤال بالغ الحساسية والعمق. من وجهة نظر نفعية بحتة، قد يبدو الدفاع عبثيًا حين تكون كفّة القوة مختلة. غير أنّ التاريخ والفلسفة الأخلاقية يقدّمان قراءة أوسع:

- أوَّلًا: (البعد الأخلاقي) 

يرى إيمانويل كانط أنّ الواجب الأخلاقي لا يُقاس بالنتائج بل بالمبدأ؛ فالدفاع عن الحق والكرامة واجب، ولو بدا النصر مستحيلًا. فالفعل الأخلاقي يستمد قيمته من صدقه، لا من احتمالات نجاحه.

 

- ثانيًا: (البعد الرمزي والنفسي) 

أحيانًا تكون المقاومة فعلًا وجوديًا يرمّم الهوية ويمنع الانكسار الروحي، كما في مقاومة الجزائريين للاستعمار الفرنسي أو الفيتناميين للغزو الأمريكي. لم تكن الغاية الانتصار العسكري المباشر، بل حفظ الكرامة، وبثّ معنى الحرية في الأجيال اللاحقة.

 

- ثالثًا: (البعد السياسي الاستراتيجي) 

حتى في حالات الضعف، قد يُحدث الصمود تأثيرًا سياسيًا أو تفاوضيًا لاحقًا. فالضعف لا يعني انعدام الفاعلية، بل يستدعي نوعًا آخر من القوة: الوعي، والتنظيم، والذاكرة.

 

4️⃣ حين يتحول الوطن إلى سلعة خطابية

الخطاب الوطني قد يُستعمل لتبرير الاستبداد أو إسكات النقد: فكل من يعارض يُتَّهَم بأنه (عدو الوطن). هنا تنقلب الفكرة من رابطٍ جامع إلى سوطٍ يُجلَد به المختلف.

وقد نبَّه نعوم تشومسكي إلى هذا النمط من (تصنيع الموافقة)؛ حيث تُستخدم وسائل الإعلام لتغليف المصالح الطبقية أو العسكرية بغلاف وطني عاطفي.

النتيجة: تضيع الحدود بين الولاء الحقيقي والولاء المفروض، ويغدو الوطن رهينة لمن يملك صوته الإعلامي وسلطته الخطابية.

 

5️⃣ نحو وعي وطني ناضج

ليس الحل في إنكار فكرة الوطن، بل في تحريرها من التوظيف.

الوطن، في صورته النقية، هو الفضاء الذي يتيح للإنسان أن يكون حرًّا وآمنًا ومبدعًا؛ فإذا فقد هذه الوظيفة، فالتشبّث به شعاريًا لا معنى له.

الوطن لا يُختزل في الحدود، بل في القيم التي تُقام داخله: العدالة، الكرامة، المشاركة، واحترام الإنسان. ومن دون هذه القيم، يغدو الدفاع عن الوطن دفاعًا عن السجن لا عن البيت.

 

خاتمة

فكرة الوطن سيف ذو حدّين: قد تكون منبع التضحية والكرامة، وقد تنقلب إلى أداة تضليلٍ وتعبئة. لذلك فإن السؤال الحقيقي ليس:

هل ندافع عن الوطن أم لا؟

بل: عن أي وطنٍ ندافع؟

أهو وطن الإنسان وحقوقه، أم وطن الشعارات والمصالح؟

وحين نميّز بين الاثنين، نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو وطنٍ لا يُستغل فيه الحب، ولا يُباع فيه الانتماء.

➖➖➖➖➖➖➖➖

د. السيد حسين علي الحسيني 

واتساب: 009613804079 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 الوطن بين الوعي والاستغلال السياسي

 المراهنة

 الحب فطري وشرعي

 إعجاز قرآني في الاندكاك {فأجاها المخاض}

 منشأ الدراما النفسية (لماذا نحزن؟)

 الهدف من الحياة

 خطر إهمال الخمس

 التسليم عند ديفيد هاوكينز

 العدالة الاجتماعية بين الفطرة والتجربة

 هل النبيُّ أمِّيٌّ

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 سوائل فاكهة طعام

 الشك والظن

 وكالة الطلاق

 وجهت فؤادي كالشمس

 حكم طعام وجبة العشاء

 الحب والغيرة وتعدد الزوجات

 طلق عاود طلق

 الله قادر مختار

 غسل السقط

 مد اللين

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net