🔴 أرذل العمر (مرحلة الشيخوخة)
قال تعالىٰ:
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنۢ بَعْدِ عِلْمٍۢ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۭ قَدِيرٌۭ} [سورة النحل: 70].
إشكال:
لماذا عبَّر الحقُّ سبحانه عن عمر الشيخوخة بـ(أرذل العمر)، والرذالة تستخدم عادة لتحقير (الرذل) الذي يعني في كتب اللغة كـ(لسان العرب وتاج العروس ومجمع البحرين): (الخسيس الناقص السافل الدنيء والدُّون من كلِّ شيء)، أليس في ذلك تحقير لعمر الشيخوخة؟!
الجواب:
لا تنحصر معاني (الرذل) بما تقدَّم، بل تشمل - بحسب السياق - أيضا: (الناقص والضعيف والعاجز).
- ففي تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرها، (أرذل العمر) هو: "السنُّ الذي يصير فيه الإنسان إلى الهرم والخرف وضعف القوى".
- وفي تفسير الميزان والكاشف وغيرهما، هو: "مرحلة الشيخوخة المتأخرة، حيث تضعف قوى الإنسان الجسديَّة والعقليَّة، فيصبح في حالة من الانحدار بعد أن كان في قوَّة وشباب".
وعليه، فالمقصود بـ(أرذل العمر) مرحلة الكبر من حياة الناس التي يصل إليها (منهم لا كلهم) - حيث قال تعالى: {(وَمِنْكُمْ) من يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العُمُرِ} - إلى غاية الضعف في صحَّته وعافيته وذاكرته وعقله ونفسيَّته؛ حيث يفقد فيها هِمَّة الشباب وقوَّتها واتِّقاد ذهنها...
وعليه، ليس المقصود توهين الشيخ والشيخة، بل الإشارة إلى ما يصيبهم من وهن وعجز في هذه المرحلة بما تقتضيه سُنَّةَ اللّٰه في خلقه في هذه الدنيا الفاني، ممَّا يدعو إلى توقيرهما ورحمتهما والإشفاق عليهما، على ما سيأتي.
وفي ذلك إشارات، منها:
1️⃣ أوَّلًا:
إنَّ هذه الدنيا تأخذنا إلى ضعف بعد قوَّة، وإلى عجز بعد قدرة، وإلى نسيان بعد تذكُّر... فينبغي للعاقل أن لا يتعالى مهما بلغت قدراته؛ قال تعالىٰ: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [سورة الإسراء: ٣٧]
2️⃣ ثانيًا:
على الإنسان أن لا يغفل عن شكر اللّٰه على أيام القوَّة والتمتُّع بالقدرة، وأن يغتنم فترة شبابه هذه في فعل الخير والسعي إلى ملء زاده بالتقوى، والتطلُّع إلى بَذْرِ دنياه لحصاد الآخرة ثمارَ الطاعات، وأن لا يضيِّعها في مجاهيل اللَّهو والمعصيات.
- وقد جاء فيما وعظ به لقمان ابنه: "اِعْلَمْ أَنَّكَ سَتُسْأَلُ غَدًا إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ (عَزَّ وَجَلَّ) عَنْ أَرْبَعٍ: شَبَابِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَهُ، وَعُمْرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَهُ، وَمَالِكَ مِمَّا اكْتَسَبْتَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقْتَهُ، فَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ وَأَعِدَّ لَهُ جَوَابًا".
- وفي الإنجيل، قال المسيح (على أمه وعليه السلام) لأحد حواريِّيه سِمْعَان بن يُونا (بطرس):
"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ" [يوحنا ٢١: ١٨].
والمعنى: اِحذر يا إنسان قبل انتقالكَ من مرحلة الحداثة والشباب؛ حيث كنتَ تلبس بنفسكَ مِنْطَقَتَكَ (أي حزامك)، وتتوجَّه حيثما تشاء، إلى مرحلة الشيخوخة؛ حيث يُلبسكَ غيرُكَ مِنْطَقَتَكَ، ويحملكَ لمحلِّ عجزكَ حيثما يريد لا حيثما تريد.
3️⃣ثالثًا:
احترام كبار السنِّ وتوقيرهم ورعايتهم ورحمتهم والإشفاق عليهم؛ فقال (صلَّى اللّٰه عليه وآله وصحبه):
- "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا".
- وقال: "مَنْ وَقَّرَ ذا شَيْبَةٍ لِشَيْبَتِهِ آمَنَهُ اللّٰهُ تَعَالَى مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ".
- وقال:"إِنَّ اللّٰهَ لَيَسْتَحِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ فِي الإِسْلَامِ".
- هذا في مطلق الشيخ والشيخة، فما بالنا بالوالدين؛ فما أعظم وصية الحقِّ سبحانه بهما؛ حيث قال:
{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)} [الإسراء].
(واللّٰهُ العالمُ بحقائقِ الأمورِ).
➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين الحسيني
واتساب: 009613804079
|