تقدَّم أن للنفس قوَّتين رئيسيتين، هما: القوَّة النظرية، وحاكمها العقل النظري الذي يدرك الأمور التي لا تستتبع جريانا عمليا؛ أي التي لا تتعقَّبها الحركة؛ كإدراكها أن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أعظم من الجزء. والقوَّة العملية، وحاكمها العقل العملي الذي يدرك الأمور التي تستتبع جريانا عمليا؛ أي التي تتعقَّبها الحركة؛ كإدراكها أن الصدق حَسَنٌ فَتَصْدُقُ في مخبراتها، وأن البخل قبيحٌ فَتَكْرُمُ في إنفاقاتها. كما تقدَّم أن المَلَكَة: "صفة مستحكِمة في النفس بفعل كثرة تعوُّدها عليها". إذا تذكَّرت ذلك، فاعلم أن العدالة: "مَلَكَة نفسانية تتحقَّق بكثرة تعوُّد النفس على انقياد قوتها العملية لقوتها النظرية بما تقتضيه الحكمة". وعليه، فإن هذه المَلَكَة هي الضابط لكل مَلَكَةٍ غيرِها، تضبطها عن الانقباض والاسترسال، لتجعلها دائما في رتبة الوسطية على سُلَّم الكمال الإنساني؛ فإذا تسلَّطت العدالة على غضب النفس مثلا، منعتها عن الجُبْن والتهوُّر لتكون كريمة، وإذا تسلَّطت على شهوتها، منعتها عن أن تكون حصورة وبهيميَّة شهوانية لتكون عفيفة، وإذا تسلَّطت على لسانها، منعتها عن أن تكون سكِّيتة وثرثارة لتكون مِِنْطِيْقَة حكيمة، ومنعتها عن أن تكون يابسة ومِهْذارة لتكون بها دعابة، وهكذا. وبناء عليه، تبيَّن أن العدالة طاردة الرذائل، جالبة الفضائل، مسلِّطة الأنوار على الدلائل. من امتطاها فإلى جوار السِّدْرَة عَرَجَت به، ومن ترجَّل عنها وفاتها فاتته وأركسته. فعانقوها تعانقْكم، واسكنوها تسكنْكم، وخيرَ أمَّةٍ كنتم.
|