كيمياء الحب واختيار الشريك (الدوبامين - الأوكسيتوسين)
الحبُّ ليس شعورًا وجدانيًّا عاطفيًّا فحسبُ، بل هو تجربةٌ بيولوجيَّةٌ مركَّبةٌ تُدارُ مِنْ قِبَلِ الدماغِ والجهازِ العصبيِّ؛ حيث يتصدَّرُ هرمونَا الدوبامين (Dopamine) والأوكسيتوسين (Oxytocin) مشهدَ هذه العمليَّةِ، ولكلٍّ منهما دورٌ متميِّزٌ ومتكاملٌ، يساهمُ في بناءِ العلاقةِ العاطفيَّةِ واستمرارِها أو زوالِها كما سيتَّضحُ.
الدوبامين هرمون الحماسة والرغبة
- وظيفتُه:
يُعرفُ (الدوبامين) بأنَّه (هرمونُ المكافأةِ)؛ إذْ يرتبطُ بالشعورِ باللَّذَّةِ، والتَّوْقِ، والتحفيزِ. وتفصيلُه:
- في بدايةِ العلاقةِ:
بدايةً، يعلو مستوى (الدوبامين) بشكلٍ كبيرٍ، مِمَّا يفسِّرُ الانجذابَ القويَّ، والشعورَ بالنشوةِ والشغفِ لدى الطرفينِ؛ ما يجعلُهما يُرَكِّزانِ على إيجابيَّاتِ الشريكِ، ويغفلانِ عَنْ مَثَالِبِه.
- مَعَ مرورِ الوقتِ:
لا يدومُ - بطبيعةِ الحالِ - هذا الهرمونُ بالارتفاعِ مَعَ تقدُّمِ العُلْقَةِ بين طَرَفَيِ العلاقةِ، بل ينخفضُ تدريجيًّا بمرورِ الوقتِ واستمرارِ العلاقةِ على وتيرةٍ واحدةٍ بعدَ مدَّة تتراوح بين ١٢ و١٨ شهرًا كما أثبتَتْ الدراساتُ؛ حيث يقعُ الشريكانِ فريسةَ شِرْكِ التعوُّدِ القهريِّ على الشريكِ جملةً وتفصيلًا، مهما كان يملكُ هذا الشريكُ مِنْ صفاتٍ كانت بَدْوًا منشأً لارتفاعِ هذا الهرمونِ وتَشَبُّعِ الجهازِ العصبيِّ بِهِ (saturation).
ومِنْ هُنَا، لا ينبغي بناءُ العلاقةِ على أساسِ هذه النشوةِ التي تصحبُ بدايتَها كاشفةً عَنِ ارتفاعِ هرمونِ (الدوبامين)؛ لأنَّ هذا البناءَ يعاندُ عدمَ ديمومتَه على مستوى واحدٍ.
وبالتالي، فإنَّ انخفاضَه ينعكسُ تلقائيًّا على مستوى العلاقةِ، فهذه هي طبيعةُ الدنيا. وكما يُقالُ بالفرنسيَّةِ (C'est la vie).
الأُوكسيتوسين هرمون الأمان و الرضا
- وظيفتُه:
يُعرفُ (الأوكسيتوسين) بأنَّه هرمونُ (العِنَاقِ) أو (الرضا)؛ فهو مسؤولٌ عَنِ الشعورِ بِدِفْءِ العلاقةِ، والثقةِ المتبادلةِ، والأمانِ الدائمِ. ومِنْ هنا يُعَدُّ مسؤولًا بشكلٍ أساسيٍّ عَنِ استقرارِ الارتباطِ لمنحِه المشاعرَ المتقدِّمةَ. وتفصيلُه:
- في بدايةِ العلاقةِ:
الجديرُ بالذكرِ، أنَّ هذا الهرمونَ - كغيرِه مِنَ الهرموناتِ - هو مجرَّدُ مُحَفِّزٍ، فهو معلولٌ لعِلَلٍ وعواملَ متعدِّدةٍ تتعلَّقُ بما يتوفَّرُ لدى الشريكِ مِنْ خِصَالٍ يتوقُ إليها الإنسانُ في شريكِه، ويفترضُها فيه ضمنَ سقفِ توقُّعاتِه، فهو ينطلقُ بدايةً، ثمَّ يدومُ وتدومُ معه المشاعرُ التي يمنحُها إنْ دامتْ تلك الخصالُ، وعلى المستوى ذاتِه، ولكنْ لا يخفى على اللَّبيبِ أنَّ دوامَ الحالِ مِنَ المُحالِ.
- مَعَ مرورِ الوقتِ:
في مُسْتَهَلِّ العلاقةِ، يبدأُ هرمونُ (الأوكسيتوسين) بالارتفاعِ تدريجيًّا، لا سيَّما مَعَ التلامسِ الجسديِّ، والمشاركاتِ الحياتيَّةِ، والدعمِ العاطفيِّ، مِمَّا يساعدُ على تحويلِ العلاقةِ مِنِ انجذابٍ مؤقَّتٍ ونشوةٍ آنِيَّةٍ أشعلَها هرمونُ (الدوبامين) إلى ارتباطٍ طويلِ الأمدِ، سقفُه الأمانُ، وأرضُه الثقةُ، وعِمَادُه الطُّمأنينةُ، ووتدُه الرضا، وجدرانُه المودَّةُ.
ومنْ هنا قيلَ: "نَحْنُ نُحِبُّ لَأَجْلِ (الدوبامين)، وَلَكِنْ نَتَزَوَّجُ لَأَجْلِ (الأوكسيتوسين)".
فلو كان مِلاكُ الزواجِ - وهو شراكةٌ إنسانيَّةٌ عاطفيَّةٌ لا جنسيَّةٌ - هو تلك النشوةُ التي يبعثُها (الدوبامين)، لَمَا عَبَّرَ الحقُّ سبحانه عَنْ عُلْقَتِه بـ(المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ) اللَّتَيْنِ يُكَلِّلُهما زَهْرُ (الأوكسيتوسين) دُونَ النشوةِ واللَّهفةِ والحماسةِ وما شاكلَها؛ فقالَ، وهو الخبيرُ بالنَّفْسِ البشريَّةِ:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم (مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)} [الروم].
انتقال الواقع النفسيِّ من الشغف إلى الرضا
الكثيرون يُنِيطُونَ الحبَّ ببداياتِه الناريَّةِ، فيتوقَّعون استمرارَها، ويظنُّون أنَّ الحماسةَ التي تَأَجَّجَتْ في قلوبِهم، وجاشَتْ في صدورِهم، وانسحبَتْ على جِهَازِهِمُ العصبيِّ، وتدحرجَتْ إلى وَهْمِهِمُ النفسيِّ، ستبقى على حالِها. لكنَّ الحقيقةَ التي يغفلُ عنها الخياليُّون، ويتوقَّعُها الواقعيُّون، أنَّ الدماغَ لمَّا كان مبرمجًا على التكيُّفِ والتعوُّدِ، سَتَقِلُّ استجابتُه للمحفِّزاتِ المتكرِّرةِ مِنْ قِبَلِ الحبيبِ شيئًا فشيئًا، مِمَّا يجعلُ اندفاعَ البداياتِ يَقِلُّ بدورِه طبيعيًّا.
أمَّا مَنْ يُحَدِّثُنا عنه غيرُ واحدٍ مِنْ ضرورةِ التغييرِ في الشكلِ والمحيطِ والمُتَوَقَّعِ مِنَ التصرُّفاتِ لإبقاءِ هرمونِ التحفيزِ (الدوبامين) بأعلى مستوياتِه، هو كلامٌ وإنْ كان صحيحًا في بعض جَنَبَاتِه، لكنَّه مبالغٌ في ظاهرِه، ومُجافٍ للواقعِ المجرَّبِ والحتميِّ في جوهرِه.
ولا نقصدُ بهذا النقدِ أنْ نُؤَايِسَ الحَبِيبَينِ، فإنَّنا وإنْ كُنَّا نحثُّهما على القيامِ بكلِّ ما يلزمُ لإبقاءِ جَذْوَةِ الحبِّ مُوقَدَةً، ولكنْ - وخشيةَ الترَدِّي في وادي الإحباطِ السحيقِ - ينبغي أنْ نُقَدِّمَ لهما حلًّا أكثرَ واقعيَّةً.
هل الحلُّ بالعلاقات البديلة؟
عَرَفْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ ما تُسَبِّبُه سُنَّةُ الحياةِ مِنِ انخفاضٍ لمستوى التوقُّعاتِ التي تُرْسَمُ في بدايةِ كلِّ علاقةٍ، وما تقتضِيه سيرةُ العلاقاتِ العاطفيَّةِ بالدلائلِ والشهادةِ، حينما يهبطُ مستوى (الدوبامين)، فيلتهمُنا الشعورُ بالفراغِ، ونظنُّ أنٌّ الحبَّ قد تسلَّلَ وراحَ، وأَهْرَقَ ما في دَلْوِهِ واستراحَ.
هنا، قد تُسَوِّلُ نَفْسُ المُحْبَطِ أنَّ الحلَّ بالظَّفَرِ بأهدابٍ بديلةٍ؛ تكونُ مُحَفِّزًا لِضَخِّ سعادةٍ تُحْيِيها الخليلةُ. ولكنْ عَبَثًا تحاولُ؛ فأهدابُ الحديثةِ كسالفتِها الجميلةِ، ترفعُ (الدوبامين) آنًا، ثمَّ تُخْفِضُهُ مُجَدَّدًا، فيا لها مِنْ نَزَوَاتٍ عليلةٍ!
وهكذا يدخلُ المسكينُ في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ مِنْ علاقاتٍ تُقَهْقِرُهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إلى مُرَبَّعِ النَّفْسِ الشريدةِ، دائخةً في دورةِ إحباطٍ مديدةٍ، مَزْجُوجةً في زِنْزَانَةِ كآبةٍ جليدةٍ بَلِيدَةٍ، عائدةً إلى ما فَرَّتْ منه، بلا قلبٍ راقصٍ ولا روحٍ سعيدةٍ. فإنَّ حلَّ المشكلةِ لا يكمنُ بتكرارِ أسبابِها، بل بِدَحْضِ مُسَبِّبَاتِها القديمةِ الجديدةِ.
ألا ترى أنَّ مَنْ أصابَ ضِرْسَهُ السوسُ، فعاجلَ خَلْعَهُ ليتخلَّصَ مِنْ ألمِه، وهو قادرٌ على رصرصتِه أو تلبيسِه، فإنَّ أوَّلَ ما يَبْدُرُ منه أنْ يتحسَّسَ بلسانِه الفراغَ الذي خَلَّفَه، فيندمُ على تسرُّعِه، ويتحسَّرُ على فقدانِه، وقد كان في وُسْعِهِ علاجُه والحفاظُ عليه؟! فَلْنَتَأَمَّلْ.
الحلُّ الحكيم
يتمثَّلُ الحلُّ لهذه المشكلةِ الأزليَّةِ بين الشريكينِ في أنْ نُعِدِّلَ مِنْ توقُّعاتِنا، ونتعلَّمَ كيف ننتقلُ مِنَ الإثارةِ والحماسةِ إلى الرضا والقناعةِ بواقعِ الشراكةِ في فضاءاتِ الوِئَامِ، ومِنَ الشغفِ إلى السكينةِ والسلامِ؛ فلا جدوى - أحبَّتي - مِنْ مُناجزةِ الحياةِ، بل إليها يرجعُ العاقلُ ويرضى بالاحتكامِ.
فَبَدَلَ الاستسلامِ لليأسِ والإحباطِ والكآبةِ التي ستسعمرُ نفوسَنا بحالِ تشبُّثِنا بالعِنادِ مِنْ خلالِ الإصرارِ على تثبيتِ المتغيِّرِ وتحليقِ الراجلِ، علينا أنْ نتنبَّهَ إلى أنَّنا حينما نختارُ شريكًا وحبيبًا، فنحن لا نختارُ خصالَه الطَّيِّبَةَ وصفاتِه التي أثارَت إعجابَنا في البدايةِ فحسبُ، بل نختارُ كذلك خصالَه غيرَ الحميدةِ والتي تزعجُنا أيضًا. لذا علينا أنْ نَضْطِّلِعَ بتقبُّلِها والتأقلمِ معها، فالكمالُ للّٰهِ تعالى وَحْدَهُ؛ إذِ "النِّعَمُ لَا تَجْتَمِعُ وَلَا تَدُومُ". وهذا رسولُ اللّٰهِ (صلَّى اللّٰهُ عليه وآلِه وصحبِه وسَلَّمَ) ينبئُنا بذلك مُوصِيًا: "اِخْشَوْشِنُوا، فَإِنَّ النِّعَمَ لَا تَدُومُ".
أمَّا إنْ لم نستجبْ لهذا النداءِ، فإنَّنا - وبإرادتِنا - سنفتحُ على عُشِّنَا ريحًا صَرْصَرًا عَاتِيَةً، تكون كفيلةً بتمزيقِه وتفتيتِه بعدما جَهِدْنَا طويلًا في بنائِه قَشَّةً قَشَّةً، فيحقُّ علينا قولُه تعالى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (٩٢)} [النحل]. فَحَذَارِ مِنْ ذلك.
وما أعظمَه حديثًا قولُ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): "أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجِزَ عَنِ اكْتِسابِ الإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ"؛ يعني: إنَّ قوَّةَ الحبِّ لا تَكْمُنُ في نَيْلِه، بل في الحفاظِ عليه.
خاتمة: (الوعي العاطفيُّ)
إنَّ الحكيمَ الواعيَ لأهميَّةِ الشراكةِ الزوجيَّةِ، يدركُ أنَّ الحبَّ الناضجَ ليس مُجَرَّدَ شَغَفٍ لَحْظِيٍّ، بل هو فَهْمٌ لدورِ المشاعرِ البيولوجيِّ، واستعدادٌ للانتقالِ مِنْ مرحلةِ الإثارةِ والحماسةِ النَّفْسِيِّ، إلى مرحلةِ الأمانِ والرضا والاستقرارِ العاطفيِّ، بِقَالَبِ المودَّةِ والرحمةِ القرآنيِّ. وأنَّ الحفاظَ على علاقةٍ عاطفيَّةٍ طويلةِ الأمدِ، يتطلَّبُ فَهْمًا واقعيًّا لطبيعةِ النَّفْسِ البشريَّةِ التي لا تستقيمُ بِمُجَرَّدِ اللَّهْثِ خَلْفَ نشوةٍ آنِيَّةٍ للجسدِ.
قالَ أبو الطيِّبِ المتنبِّي:
"فَإِنَّ قَلِيلَ الحُبِّ بِالعَقْلِ صَالِحٌ … وَإِنَّ كَثِيرَ الحُبِّ بِالجَهْلِ فَاسِدُ"
فليخترْ أحدُنا شريكَه بعقلِه وروحِه قبلَ شهوتِه وجسدِه، وليكنْ زواجُنا على الضَّرَّاءِ كما السَّرَّاءِ، وفي المَكْرَهِ كما المَنْشَطِ. ولْنُعَلِّقْ آمالَنا على ما يبقى لا على ما يفنى؛ فبهذا نَطَقَتِ السماءُ وقالتْ:
- "(١٨) لِيَكُنْ يَنْبُوعُكَ مُبَارَكًا، وَافْرَحْ بِامْرَأَةِ شَبَابِكَ... (١٩) وَبِمَحَبَّتِهَا اِسْكَرْ دَائِمًا" [الأمثال ٥].
- أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ المَسِيحُ أَيْضًا الكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِهَا (٢٥)" [أفسس ٥].
- {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْأَمْثَالَ (١٧)} [الرعد].
➖➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين علي الحسيني
واتساب: 009613804079
|