الله قادر مختار بذاته (1):
القادر المختار : " هو الذي إذا شاء أن يفعل فَعَل ، وإن شاء أن يَتْرُكَ تَرَك " (2). و الموجَب خلافه (3). والدليل على ذلك : إنّ الواجب تعالى لمّا كان مُوجِدا للحوادِث ، وهي التي تُسْبَق بالعدم (4)؛ من قبيل الحركة والسكون والأجسام ... لمّا كان موجِدا لها – إذا كان موجَبا فلا تتخلّف الحوادث الممكنة عنه لأنّها آثاره ، فيلزم أن تكون هذه الحوادث معه ترافقه في وجوده ؛ يعني في أزليّته وأبدِيَّتِه ، فتكون واجبة (5)، وهو محال لكونها ممكنة ، فيثبت المطلوب بأنّ الواجب تعالى قادر مختار .
قدرته تتعلق بجميع المقدورات :
إذا لم تكن قدرة الواجب تعالى متعلِّقة بجميع المقدورات ، فلا يخلو إمّا أن يكون مانِعُ التعلُّق من الواجب تعالى أو المقدورات عينِها ، ولا ثالثَ لهما . فإذا نَفَينا كلا المانعين وجب التعلُّق حينها . ← أوّلا : نَفْيُ المانع من جهة الواجب تعالى: إنّ الذي اقتضى كونه تعالى قادرا هي ذاته المقدّسة ، ونسبة الذات إلى جميع المقدورات واحدة؛ لأنّها مُجَرَّدة (6)، فيكون مقتضاها وهي القدرة متساوية النسبة لجميع المقدورات أيضا . فثبت بذلك أنّه لا مانع من تعلّق قدرة الواجب تعالى بجميع المقدورات من جهته .
← ثانيا : نَفْيُ المانِع من جهة المقدورات : إنّ الذي اقتضى كونَ الشيء مقدورا عليه إمكانُه ، والإمكـانُ مشتَرَكٌ بين الكـلِّ ، بين الخير والشرّ ، وبين الحَسَنِ والقبيح ... فتكون صفة المقدوريّة مشترَكَةً بين الممكنات . فثَبَتَ بذلك أنّه لا مانع من تعلّق قدرة الواجب تعالى من جهة المقدورات .
← ثالثا : النتيجة : وإذا وُجِدَ المقتضي للتعلّق وهو ذاتُ الواجب تعالى وإمكانُ المقدورات ، وانتفى المانع بالنسبة إلى القادر والمقدور ، وجب التعلّق العامّ بجميع المقدورات ، وهو المطلوب .
شبهات وردود :
← أوّلاً : إذا كانت قدرة الواجب تعالى متعلّقة بجميع المقدورات ، فلماذا عَجِزَ عن إدخال الدنيا في بيضة ، والبيضة كهيئتها ، كما ذُكِرَ في حِوَار عيسى (ع) مع إبليس (7)؟
الجواب : إنّ قدرة الواجب تعالى تتعلّق بالمقدورات ، أي بالممكنات لا بالممتنعات ، وإدخال الكبير في الصغير مع بقاء كلٍّ منهما على حجمه ممتنعُ الوجود ، وهذا لا ينافي التعلّق العامّ لأنّ الإمتناع من ذات الممتنع نفسِه ، لا من ذات الواجب تعالى؛ أي من القابل لا من الباعث . كما إذا أرادَ المتنبّي إسماعَ الطرشانِ شِعْرَه ، فكيف له ذلك ؟! والعجز في المقام من القابل لا من الباعث ؛ أي من جهة طَرَشِ الطرشان لا من المتنبّي .
نرجع إلى المِثال ، فإنّ افتراض كون الواجب تعالى فاعلا للممتنع لازِمُهُ أنّه مُجْبَرٌ أو قُلْ معاكِسٌ لإرادته ؛ فإنّ إدخال الدنيا في البيضة يستلزم إرادة الواجب تعالى جعل البيضة كبيرة مع إرادته بإبقائها صغيرة ، وبذلك يكون معاكِسا لإرادته ومجبرا ؛ فهو من جهة إرادته لِصِغَر البيضة مُجْبرٌ على إرادتها كبيرة ومعاكِسٌ لإرادته الأولى (8)، ومن جهة إرادته لِكِبَر البيضة مُجْبَرٌ على إرادتها صغيرة ومعاكسٌ لإرادته الثانية (9).
← ثانيا : سَلَّمنا أنَّ الواجب تعالى قادرٌ على الممكنات لاستحالة الممتنعات بذاتها ، ولكن يلزم من ذلك أن يفعل الواجب تعالى الشرّ والقبيح لإمكانهما ، فكيف ذلك وهو الحكيم العادل الذي لا يفعل القبيح (10)؟
الجواب : اِعلم أنّه لا يلزم من التعلّق الوقوع خارجا ؛ أي لايلزم من قدرته على كلِّ شيء أن يفعل كلَّ شيء ، فأنت قادِر على أن ترميَ نفسك من الشُّرفة ولكنَّك لا تفعل لِحِكْمَتِك ، فعدم فعلِك للشيء لا يعني عجزَك عنه .
_____________________
(1) هاتان صفتان إيجابيّتان متلاصقتان ، لأنّ القدرة : "هي الصفة الني يتمكّن الحيّ من الفعل وتركه بـالإرادة " . (2) أي أنّ نسبة إيجاد الفعل وتركه متساوية عند القادر المختار : ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيئًا أنْ يَقُولَ لهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ سورة يس الآية 82 . (3) فلا تتساوى النسبة لديه فإمّا أن يلاصِقه وجود الفعل أو لا ؛ من قبيل الشمس فهي مجبرة على الإشعاع ، والنَّار التي تلازمها الحرارة . فيتَّضح أنّ الموجَب لا يتخلّف أثرُه عنه . (4) والحوادث بما أنّها تتّصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى فهي ممكنة الوجود . (5) لِما اتّضح من أنّ الأزليّة والأبدِيّة سِمَةُ الواجب تعالى الذي لا أوّليّة له ولا آخِرِيّة . (6) المجرّد :" ما لا يكون محلاّ لجوهر ، ولا حالاّ في جوهر آخر ، ولا مركّبا منهما " التعريفات للجرجاني صفحة 201/ دار الكتب العلمية . (7) مرَّ هذا الكلام في الفصل الأوّل " إثبات واجب الوجود لذاته " . (8) أي إرادة صِغَرِ البيضة . (9) أي إرادة كِبَرِ البيضة . (10) سيأتي دليل حِكمته وعدله في مبحث العدل .
|