﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 الحسين وديعة النبي 

القسم : محاضرات عاشورائية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 28   ||   القرّاء : 16435

          لم يدّخر الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وُسْعًا في إبلاغ أُمّته ما لأهل بيته من كرامةٍ وفضلٍ وحُرمةٍ، منذُ بداية البعثة الشريفة، من خلال وحي الآيات الكريمة، وما صَدَرَ منه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قولٍ، وفعلٍ، وعلى طول الأعوام التي قضاها في المدينة المنوّرة بين أصحابه وزوجاته في المسجد، وفي الدار، وخارجهما على الطريق، وفي كلّ محفل ومشهد. لقد وَعَدَ على حبّهم، وتوعَدَ على بُغضهم وحربهم، وأبلغَ، وأنذرَ، ورغّبَ وحذّر، بما لا مزيدَ عليه.

وفي رواية أنس بن مالك خادم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: "جاءت فاطمة، ومعها الحسن والحسين، إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في المرض الذي قبض فيه. فانكبّتْ عليه فاطمة، وألصقتْ صدرها بصدره، وجعلت تبكي، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَهْ يا فاطمة, ونهاها عن البكاء. فانطلقت إلى البيت، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهو يستعبر الدموع - : اللّهمّ أهلَ بيتي، وأنا مستودعهم كلَّ مؤمن, ثلاث مرّات".

لاحظوا معي هذا المشهدُ الرهيبٌ: رسول الله مسجّىً، ستفقده الأُمّة بعد أيّام، وتفقد معه الرحمة للعالمين, وتفقد الزهراء أباها، ويفقد الحسنان جدّهما، ويفقد علي أخاه، تنكب فاطمة على أبيها، وهذا الانكباب يعني منتهى القُرْبِ، إذ لا يفصلُ بينهما شيء سوى الصدر، والصدرُ محلّ القلب، والقلبُ مخزنُ الحبّ، فالتصاق الصدرين بين الأب والبنت، في مرض الموت، يُنبىء عن منظر رهيب مليء بالحزن والعاطفة، بما لا يمكن وصفه. وليس هناك ما يعبّر عن أحزان فاطمة (عليها السلام)، إلاّ العَبْرةَ تجريها، والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة، لا يستطيع أن يشاهدَها تبكي، فينهاها. لكنّه هو الاَخر، لا يقلّ حزنهُ على مفارقة ابنته الوحيدة، وسائر أهل بيته، الذي أعلمه الغيبُ بما سيجري عليهم من بعده، فلم يملك إلاّ استعبار الدموع. على ماذا يبكي رسول الله؟

إنّ كلامه الذي قاله يكشفُ عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة، والمحتضرُ إنّما يوصي بأعزّ ما عنده، فهو في أواخر لحظات حياته، إنّما يفكّر في أهمّ ما يهتمّ به، فيوصي به، والرسول يُشهدُ الله على ما يقولُ، فيقول: اللّهمّ، أهلَ بيتي. ويجعلهم وديعةً, يستودعُها كلَ مؤمنٍ برسالته، وحفظ الوديعة من واجبات المؤمنين، قال تعالى: >الَذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ<. ويؤكّد على ذلك، فيقوله ثلاث مرّات. فهل حفظت أمةُ النبيِّ وديعته؟

لئن ذهبَ قولُ العرب: "المرء يُحْفَظُ في ولده", فإن لذلك أصلاً قرآنياً أدّبَ اللهُ به عباده المؤمنين، على لسان عبده الصالح الخضر (عليه السلام)؛ حيث أقام الجدار الذي كان للغلامين اليتيمين في المدينة، معلّلاً فعله بصلاح والدهما؛ قال تعالى: >وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا<. فلصلاح أبيهما استحقّ الغلامانِ تلك الخدمة من الخضر.

فهل أبو الغلامين أصلح من أبي الحسن والحسين حتى لا تُمهل الأُمّة أهلَ البيت أكثر من أن يُغمِضَ الرسولُ عينيه، ولمّا يقْبر جسده الشريف، فعدو على آله، ليغصبُوا حقّهم في خلافته وإرثه، حتّى غضبت عليهم روح النبي فاطمة، فقضت الأيّام القلائل بعد أبيها معصّبةَ الرأس، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة، وماتت بعد شهور فقط من وفاة أبيها، وهي لهم قالية؟  وما كان نصيب الغلامين، السبطين، الحسن والحسين، من الأمّة بأفضل من ذلك، بل تكوّنتْ - على أثر ذلك التصرّف المشين - فرقة سياسيّة تستهدف آل النبيّ بالعداء والبغضاء، فدبّرت المؤامرة التي اغتالت عليّاً في محرابه، وطعنت الحسن في فسطاطه، وقتلت الحسين في وضح النهار يوم عاشوراء في كربلائه، كما يذبح الكَبْش جهاراً، أمام أعين الناس، من دون نكير، ولم يكن هذان الغلامان بأهونَ من غلامي الخضر، إذ لم يكن أبوهما أصلح من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولقد جابه الحسينُ (عليه السلام) بهذه الحقيقة واحدًا من كبار زعماء المعادين لاَل محمّد، والمعروف بنافع بن الأزرق، في الحديث الاَتي؛ حيث قال (عليه السلام): إنّي سائلك عن مسألة: >وَأَمَا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَينِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ<، يا ابن الأزرق: مَنْ حُفِظَ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق: أبوهما، قال الحسين: فأبوهما خيٌر، أم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)?

إنّها الحقيقة الدامغة، والحجة البالغة، لكن هل تنفع مَنْ أُشربوا قلوبهم النفاق، وغطّى عيونهم الجهل والحقد، والكراهية للحقّ؟

لقد كان من نتائج ضياع الوديعة أنّه لم يمضِ على وفاة الرسول خمسون عامًا، حتّى عَدَتْ أُمَتُه على وديعته, وريحانته الحسين، وقتلته بأبشع صورة وهل يُتصوّرُ ضياع أبعد من هذا? وما كان قتلهم هذا قتلا خطأ، بل كان قتلا متعمدا عن سابق إصرار وتصميم وترصد، قتلا بذرته أحقاد الجاهلية لما فعله أمير المؤمنين بأجدادهم الكفرة، نعم هذه ضريبة ابن الضارب بالسيفين، والطاعن بالرمحين، الذي ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله.

ولم يخفوا ذلك حينما واجههم الحسين (عليه السلام) في الميدان، لا عن خوف، ولا عن استجداء، وإنما تذكيرا لهم، وإلقاء لحجة الله عليهم؛ حيث قال: "أيها الناس انسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه، وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق برسوله بما جاء من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: "هذان سيدا شباب أهل الجنة"؟ فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حـاجـز لكم عن سفك دمي؟

إن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم.

ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقِصَاصِ جراحة... وقال (عليه السلام): يا ويلكم علام تقاتلوني؟! على حق تركته؟ أم على سنّة غيرتُها؟ أم على شريعة بدّلتها؟ فقالوا: بل نقاتلك بغضًا منَّا بأبيك، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين...

نعم هؤلاء هم قتلة الحسين >قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ<، قد ضيعوا الوديعة، لأنهم أهل خيانة لا أهل أمانة، ولأن إسلامهم ألفاظ يلوكونها بين لحييهم ولم يتدبروها. فالحمد لله الذي جعلنا من شيعة الحسين محبيه، ووفقنا لنكون من المحيين لسيرته الخالدة. >ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ<.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 ذات عادة وقتية عددية رأت الدم في وقتها

 الجعالة والوكالة

 حقا حقا

 ذو الجلال والإكرام

 الإفطار العمدي وكفارته في رمضان وقضائه

 ما يُتَيَمَّمُ به

 الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)

 الزواج المؤقت

 الدليلان العقليان على وجوب المعرفة

 النداء الإلهي (وجوب الصوم)

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net