﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 الغضب 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 16974

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي كلّت الألسن عن بيان صفته، وانحسرت العقول عن كنه معرفته، وتزعزعت الأركان من خشيته، وتواضعت الأماكن من هيبته. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأئمة، عينِ الله الناظرة، ويدِه الباسطة، وأذنِه الواعية، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة، ونِقمته الدامغة. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله الذي إليه مرجع العباد. قال تعالى: >... وََالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ< آل عمران، 134.

       يذكر الحكماء أن النفس الإنسانية تنطوي على قوى ثلاثة: القوة العاقلة ومركزها الرأس، والقوة الغضبية ومركزها الصدر، والقوة الشهوانية ومركزها البطن والفرج. حديثنا اليوم عن القوة الغضبية، فإن الله سبحانه أودع فينا هذه القوة لغايات كثيرة، منها: الحفاظ على النفس بالتعاون مع غريزة حب الذات، والدفاع عن الحق. هذا إذا أعملنا هذه القوة في طريق الله. أما لو حاد أحدنا عن هذا الطريق لوجد نفسه يفيض غيظا، ويقطر غضبا من أجل التوافه والمهاترات، ومع الأهل والزوجة والأولاد والإخوة.  

       من هنا رفض الإسلام هذا النوع من الغضب، وأرشد إلى كونه مدعاة لنفور الناس، فقال تعالى مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): >فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...<آل عمران، 159. وفي مقابل هذا وجه الإسلام القوة الغضبية ضد أهل الباطل من الكفار والمنافقين الذين لا يُرجى منهم صلاحا؛ قال تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...< التوبة، 73.  وقال: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً< التوبة، 123. ثم وصف تعالى أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: > وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...< الفتح، 29. يعني أن المؤمن الصالح هو من يتعامل مع إخوانه برقة وتواضع، بينما يظهر مع المعاندين من أهل الباطل الخشونة والغلظة. وهذا ما عبر عنه الإمام المهدي (عليه السلام) في دعاء الافتتاح حينما قال: "وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة". يعني أن رحمته تعالى تتجلى لمن هم أهل لها، بينما يشتد غضبه وعقابه على من بارزه بالمعاصي مصرا عليها.

فالغضب إذًا لا يكون إلا للحق. وتستحضرني واقعة الخندق، حينما برز الإيمان كلُّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) للشرك كله عمر بن عبد ود العامري، فجلس أسد الله الغالب على صدر عدوه ليحتز رأسه، إلا أنه توقف هنيهة، ثم من بعدها أقام حد الله عليه، ولما سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب تأخره، قال (عليه السلام): "يا رسول الله! عندما جلست على صدره، شتمني، وبصق في وجهي، فأثار غيظي وغضبي، فما أحببت أن أقتله شفاء لغضبي، وإنما أردت أن يسكت الغضب عني، فيكون قتلي إياه غضبا لله، وليس غضبا لنفسي".

          وهكذا يعلمنا أمير المؤمنين (عليه السلام) كيف يتحكم الإنسان بغريزة الغضب، ويوجه بوصلتها إلى وجهة نصرة الحق وفيما يستحق أن يغضب المرء لأجله. وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ليس الشديد بالصَّرْعة-الذي يكثر صرع الناس-، ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب". فإن الذي يملك غضبه يكشف عن وقار وحِلم وعقل، والذي ينقاد لغضبه يغترضه الشيطان حتى يجعل منه أضحوكة بين الناس. وما أدق وصف الإمام الباقر (عليه السلام) للغضب؛ حيث قال: "إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمّرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإنّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك".

          صدق إمامنا (عليه السلام)، فإن نار الغضب شيطانية، إذا اضطرمت أعمت صاحبها، وأصمّته عن كل موعظة، حتى تطفئ نور عقله، فينقلب مجنونا، لا يعي ما يقول، ولا يفكر فيما يفعل، فتنطلق الشتائم والفحش في القول، الذي يستحي منه بعد فتور غضبه، بل ينكره بحال ووجه به؛ لأنه لم يكن يدرك ما يقول, وقد تتعدى الفورة اللسان لتصل إلى حد الضرب والتهجم والجرح والقتل، وربما قويت نار الغضب حتى تحرق القلب نفسه، فيموت الغضبان غيظا. فيكون قد خسر الدنيا بإتعاسه نفسه فيها، وعوقب في الآخرة؛ لأنه سيجازى على سوء خلقه.

          صدق أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال: "إياك والغضب، فأوله جنون، وآخره ندم". ولأجل هذا كان تركه من أهم المواعظ التي كان يعظ بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعت أبي يقول: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل بدوي فقال: إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلم، فقال: آمرك أن لا تغضب. فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرّات حتّى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ بالخير.

          وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"؛ فإنك ترى المؤمن يعيش حالة وقار حقيقية، فإذا غضب، خرج عن طوره، فقبحت صورته، واستحالة خلقته من خلقة لطيفة محببة إلى خلقة سوداء جاحظة العينين، منتفخة الأوداج، فتضيع هيبته، ويُسلب عنه وقاره، وينفض الناس من حوله.

          وما أبلغ ما روي من أن إبليس حينما قص(عليه السلام): أستغفر الله أن يكون لي على مثلك يد! قال إبليس: هو ما أقول لك. قال نوح: ما هي يدي عليك؟! قال إبليس: دعوت على قومك بالهلاك، فهلكوا، وقد كنت من قبل مشغولا ليل نهار في إغوائهم وتضليلهم، وأنا الآن بعد هلاكهم في إجازة لا أجد ما أغويه. قال نوح: بماذا تكافئني؟ قال: أنصحك أن لا تغضب، فما غضب إنسان إلا وهان عليّ انقياده.

          فإذا بان خطر هذه الآفة الأخلاقية، نسأل عن طرق اتقائها، وتجنب الوقوع في مهالكها.

- أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا غضب الرجل، فقال: أعوذ بالله، سكن غضبه".

- ثانيا: السكوت، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "داووا الغضب بالصمت"، فلا يستمر بالمجادلة؛ لأنها لا تورث إلا الحقد وتشعل فتيل الغضب، بل يحرص على أن يبدو رصينا هاديا، وكما قال الشاعر: وذو سفه يخاطبني بجهل فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا

- ثالثا: أن يغير حالته، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" .

- رابعا: ثم يفكر الغاضب بعواقب الغضب، وفضائل كظم الغيظ، وأن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر وليقرأ قوله تعالى: >... وََالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ< آل عمران، 134، وليتذكر أن أجر كظمه عظيم، فقد ورد عن الباقر (عليه السلام): "من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه، حشاه الله أمنا وإيمانا يوم القيامة".

 - خامسا: الوضوء؛ فإن برودة الماء تخفف من نار الغضب.

- سادسا: إزالة الأسباب المثيرة للغضب، فيبتعد عنها، أو يبعدها عنه.

وأختم بما روي عن عصام بن المصطلق أنّه قال: "دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي (عليهما السلام) فأعجبني سمته ورُواؤُه –أي منظره الحسن-، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه. فنظر إليّ نظرة عاطف رؤوف، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم. >خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)< الأعراف. 

ثمّ قال لي: خفّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا لأعناك، ولو استرفدتنا –طلبت عطيتنا- لرفدناك، ولو استرشدتنا لرشدناك. قال عصام: فتوّسم مني الندم على ما فَرَطَ -أي تقدم- مني. فقال: >لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ< يوسف، 92. أمن أهل الشام أنت؟ قلت :نعم. فقال: (شِنْشِنَةٌ أعرِفها من أخزم)، حيّانا الله وإيّاك، انبسط إلينا في حوائجك، وما يعرض لك تجدني عند أفضل ظنّك إن شاء الله تعالى. قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وودتُ لو ساخت بي، ثمّ سَلَلتُ منه لَوَاذاً وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه".

          أسأل الله السميع العليم أن يوفقنا لكظم الغيظ والعفو عن الناس، ويحشرنا في زمرة محمد وآل محمد الطيبين، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 أحكام الغسل

 نذر الزوجة

 عالم الآخرة

 الرائي السبّوح

 للإظهار

 الزواج الدائم والمؤقت بين الشيعة والسنة

 الاختتان

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 الاحتضار

 الأدلة القرآنية على إمامة علي (عليه السلام)

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net